الجوع والركوع والبقاء على قيد الحياة
الحرب السورية من منظور الغذاء
برنت إنغ (Brent Eng) وخوسيه سيرو مارتينيز (Jose Ciro Martinez)
نشرت في MER273
في 23 ديسمبر/ كانون الثاني 2012، بعد أسبوع من فرض نقص المؤن، تلقت بلدة حلفايا السورية 100 كيس طحين من جمعية خيرية إسلامية. وبدأ المخبز الرئيس في البلدة إنتاج الخبز، وهي حالة نادرة جداً منذ تصاعد العنف بين نظام الأسد وقوات المعارضة في مطلع تلك السنة. وأخذ المواطنون الجائعون يصطفون بانتظار دورهم.
وبعد ساعتين، أي بعد الساعة الرابعة مساء، قصفت طائرة هجوم أرضي من نوع سوخوي 22 الفرن، ما أسفر عن مقتل 60 مدنياً على الأقل ينتظرون خبزهم اليومي. [1] ويظهر فيديو يوتيوب التقط بعيد الهجوم أرغفة وأشلاء متناثرة في الشارع. [2] هذه الصور مرعبة، والصرخات مؤرقة، ولكن هناك ما هو أكثر من المذبحة التي تراها العين. فتوفير المواد الغذائية للبعض وحرمان البعض الآخر ليست إلا تكتيكات عسكرية ترتبط ارتباطاً شديداً بمزاعم الأطراف المتحاربة على السيادة والشرعية.
حتى عام 2007، تميزت سوريا بسياستها الغذائية الناجحة. وأدت التحسينات في مجال زراعة الأرض الجافة التي تحققت عبر المساعدة الدولية ودعم الدولة والتخطيط الاقتصادي المركزي إلى اكتفاء البلاد ذاتياً في المنتجات الاستراتيجية كالقمح. وعلى مدى السنوات الخمس التالية، دمر مزيج من التحرر الاقتصادي واستمرار سوء إدارة الموارد الطبيعية والجفاف الشديد الريف السوري. ووفق تقديرات متحفظة للأمم المتحدة هجر أكثر من 300 ألف شخص المحافظات الشمالية الشرقية بحلول عام 2009 بسبب الجفاف وضعف المحاصيل وارتفاع تكاليف الإنتاج. وساهمت هذه الهجرة في هجرة غير مسبوقة إلى المدن واشتداد الغضب الشعبي تجاه الحكومة.
وتكاد تكون مصادفة أن بدأ التمرد ضد نظام بشار الأسد في البلدات الريفية في سورية. لقد أشعل الضغط على الإمدادات الغذائية وارتفاع الأسعار السخط الشعبي. وانتشرت الاحتجاجات بسرعة في المحافظات الريفية الأكثر تضرراً جراء الإهمال الحكومي – درعا الواقعة في منطقة حوران المنتجة للقمح في الجنوب ومحافظات الرقة والحسكة في الشمال الشرقي. [3]
في أوقات السلم، يقدم الطعام مع مجموعة من الدلالات الرمزية والمادية والسياسية. وعندما تندلع الحرب، يقع الغذاء في شرك شبكات دلالية أخرى. تحوَل المزارع ومطاحن الدقيق من مصادر رزق إلى أهداف للقصف. ولا تعود الخضروات والفواكه مجرد تغذية وتصبح وقوداً للجنود. ولا تعود الأطباق محلية الصنع ووجبات الأسرة طقوساً مجتمعية – فهي حصص للجنود للمثابرة. وسواء كان الغذاء سلاحاً أو رعاية أو مساعدات خارجية، فهو شيء بالغ الأهمية للسيطرة، كما تفهم القوات على جميع أطراف النزاع السوري. ولذلك ينبغي أن تتخلى المنظمات الإنسانية عن أوهامها المتمثلة في الحياد وعدم التحيز.
الغذاء كسلاح
الغذاء مكون محوري في الاستراتيجية الحربية لنظام الأسد – والمعارضة أيضاً.
الطريقة الأولى وربما الأكثر وضوحاً التي يستخدم النظام بها الغذاء كسلاح هي التدمير الهادف للبنية التحتية لإنتاج وتوزيع وسائل المعيشة. وبالتزامن مع بدء عمليات القصف المدفعي واسعة النطاق ضد التمرد في يناير/كانون الثاني 2012، بدأت القوات المسلحة السورية بقصف المخزون الغذائي والثروة الحيوانية والآلات الزراعية في المناطق التي ينشط فيها المتمردون. وقطع الجيش أيضاً أو أضر بطرق النقل الرئيسية لشحنات الغذاء. ويعيق العنف والاضطراب الحصاد ويخرج المزارعون من أراضيهم، ويحول ببطء نقص الغذاء المؤقت إلى نقص طويل المدى.
تصحرت مئات البلدات الريفية ومساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الخصبة حالياً. ولا تستطيع نحو50000 أسرة زراعية صغيرة الحجم زراعة أراضيها دون مساعدة دولية. وإنتاج القمح في سورية الآن أقل 52 في المئة من متوسط 2001-2011. وقد أشار تقرير صادر عن الأمم المتحدة في مايو/أيار 2014 إلى أن “غياب السلامة والأمن في مناطق النزاع أدى إلى ندرة وصول المزارعين إلى أراضيهم”، مضيفاً أنه “في هذه المناطق، كان هناك دمار واسع النطاق لمرافق التخزين والبنية التحتية للري والمحاصيل والأشجار، في حين كان هناك نهب كبير من الماشية”. [4] ويتوقع تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة نُشر في الشهر نفسه أن قلة الأمطار الموسمية، إضافة إلى ويلات الحرب، سيقلص المنطقة الزراعية الإجمالية بنسبة أكثر 21 في المئة مقارنة بمتوسط زمن الحرب.
ويرتبط استخدام هذا التكتيك كثيراً بتدهور القدرة العسكرية للنظام. لا يقود النظام قوات كافية لتجميعها في كافة المناطق المتنازع عليها في البلاد – والأعداد آخذة في الانخفاض بسبب الاستنزاف والهروب. وبالتالي لجأ النظام إلى القصف الاستراتيجي للمناطق الخارجة عن سيطرته.
استهدفت المخابز تحديداً بصورة ممنهجة. ففي أغسطس/آب 2012، أفادت هيومن رايتس ووتش ومقرها نيويورك بما لا يقل عن عشر هجمات جوية على مخابز حلب، مركز مقاومة المعارضة في ذلك الوقت. وقداضطر نقص سابق في الطحين في المدينة كثير من المخابز إلى إغلاق أبوابها، حيث تركز الزبائن في بقية المنافذ. ويحدث القصف في كثير من الأحيان أثناء ساعات الذروة لتحقيق أقصى قدر من الضحايا”. قال أول سولفانغ، وهو باحث في هيومن رايتس ووتش،”يوماً بعد يوم، يصطف سكان حلب للحصول على الخبز لأسرهم، وبدلاً منها يحصلون على شظايا خارقة [في] أجسادهم من قنابل وقذائف الحكومة”، وأضاف أن “الهجمات العشر على المخابز ليست عشوائية”. وتقع كافة هذه المخابز في أحياء غير متنازع عليها، ما يستبعد إمكانية استهداف الهجمات مقاتلين. فكان جميع الضحايا تقريباً من المدنيين.
أكد تحقيق آخر قامت به صحيفة ماكلاتشي 80 هجوماً على الأفران بين أغسطس/آب 2012 ويناير/كانون الثاني 2013. [5] وأشارت الجماعتان المعارضتان اللتان ذكرتا الضربات أولاً إلى أن قصف المخابز “ازداد بتواتر، وبالتزامن مع النجاح المتزايد للمتمردين”. ففي أغسطس/آب 2012، نفذت 18 هجمة على المخابز، ضرب 16 منها أجزاء من حلب، ووقعت 41 هجمة أخرى في المدينة خلال الأشهر الأربعة التالية. وعندما بدأ الجيش السوري الحر بالانتشار في مناطق إدلب وحمص ودير الزور، تبعته تفجيرات لمخبز بسرعة. في خريف عام 2014، حول النظام انتباهه إلى عملية صنع الخبز الناجحة للدولة الإسلامية، أو داعش، وقصف منفذاً في مدينة الرقة في غارة جوية يوم 6 سبتمبر/أيلول قتل فيها 11 مدنياً على الأقل . [6]
وأصابت هجمات النظام أجزاء أخرى من سلسلة الإمدادات الغذائية، مثل صوامع القمح التي استولى عليها المتمردون. في فبراير/شباط 2013، قصف سلاح الجو السوري إحدى الصومعتين الرئيسيتين غير الواقعتين تحت سيطرة الحكومة، في شمال مدينة الباب، واللتان تحتويان 43000 طن من القمح المنتج محلياً. وعندما سيطر المتمردون لاحقاً على 20 مطحنة دقيق مملوكة للدولة في مدينة حلب، مركز الطحن في سوريا قبل الحرب، ردت الحكومة بوقف شحنات القمح. ومنذ ذلك الحين، انخفضت طاقة الطحن في المدينة بمقدار النصف تقريباً. [7]
كما يدمر النظام الغذاء في المكان الذي يزرع فيه. ففي مايو/أيار 2012، على سبيل المثال، لاحظ المصدر الإخباري السوري المختصر أن “قوات الأسد تعاقب الثوار بحرق محاصيلهم الزراعية” في دير الزور وحمص وحماة. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2013، أفاد مزارعون شتى للجزيرة بممارسة الجيش السوري المتمثلة في حرق الحقول الزراعية في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. قال الحاج أديب، وهو مزارع من حماة، لقناة العربية إن “الجيش السوري يحرق [الحقل] بهدف محاصرة المدينة”، ليقضي على مصدر رزق غالبية الذين يعملون في الزراعة”. وفي يونيو/حزيران 2014، وفقاً لشبكة أخبار الآن التي تتخذ دبي مقراً لها، هاجم النظام بلدة جسرين في الغوطة الشرقية–وهي منطقة تسيطر عليها المعارضة في محيط دمشق – بقصف حقول القمح المجاورة، وأحرق المناطق الموردة للمخابز المحلية. وقد ردت جماعات المعارضة لاستخدام الغذاء كسلاح.
في يونيو/حزيران 2014، سيطر تنظيم داعش على جسر السياسية، آخر مدخل إلى مدينة دير الزور لم يسيطر عليها سابقاً، لمنع الطعام من الدخول. وزاد انعدام الأمن الغذائي، ما اضطر المدنيين والمقاتلين من المجموعات المعارضة الأخرى على السواء إلى الفرار. وبالمثل، فإن حواجز داعش في المعابر بين العراق وسوريا وتركيا تعكس ليس فقط الضرورة الأيديولوجية لإقامة خلافة بلا حدود بل أيضاً رغبة دنيوية في السيطرة على خطوط الإمدادات الغذائية. وقد حددت سلطة داعش على التجارة عبر الحدود التجارة الزراعية الضرورية للنظام. وارتفعت أسعار المواد الغذائية في سوريا نتيجة لذلك.
المناورة الثانية ذات الصلة بالأغذية هي الحصار. يحدث الكثير من القتال بين الجيش وجماعات المعارضة السورية فوق التلال التي تطل على قرى أو طرق تشكل طرق إمداد. وبمجرد الفوز بالموقع الاستراتيجي، تطوَق المنطقة المستهدفة لقطع الحصول على الغذاء والدواء والاحتياجات الأخرى. ويمكن أن تستمر حالات الحصار لأشهر في كل مرة. وغالباً ما يحدث وقف إطلاق النار واستسلام عندما تنهك المجتمعات المحلية من الجوع.
ومن الأمثلة حصار مخيم اليرموك الذي كان يوماً ما حياً مزدحماً يقطنه 160،000 نسمة، وأصبح مشهداً مدمراً منذ تشديد النظام حصاره في يوليو/تموز 2013. ويمثل اليرموك، الواقع على بعد بضعة أميال من المدينة القديمة في العاصمة، الآن موطناً لأقل من 20000 نسمة، يواجه معظمهم شبح الجوع يومياً.
وأصبح مخيم اللاجئين عقدة اضطرابات في يونيو/حزيران 2011 عندما أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة الموالية للأسد النار وقتلت 14 متظاهراً فلسطينياً مناهضاً للنظام، ما أثار مصادمة كبيرة. وفي ديسمبر/كانون الأول 2012، دخلت جماعات مسلحة تابعة للجيش السوري الحر اليرموك وساعدت الفلسطينيين المؤيدين للمعارضة في طرد الميليشيات التابعة للنظام. واستخدمت جماعات المعارضة الموقع الاستراتيجي لليرموك لإطلاق صواريخ على دمشق، وهو ما دفع النظام لتطويق محيط المخيم وقطع الإمدادات.
وعلى الرغم من أن جماعات المعارضة أحرزت انتصارات عسكرية داخل المخيم أئناء العام التالي، فقد شلال حصار بفعالية سكان اليرموك. وأتاح الوضع الإنساني المتردي لنظام الأسد السيطرة على مفاوضات التهدئة، مجبراً المسلحين على تقديم تنازلات قبل طردهم تماماً. في اتفاق جرى في فبراير /شباط 2014 بعد وفاة قرابة 100 شخصاً من الجوع، أورد الثوار التزاماتهم تجاه رفاهية سكان اليرموك بوصفها أساس تنازلاتهم. [8] وكانت رسالة النظام إلى المناطق المتمردة الأخرى واضحة: الاستسلام أو الموت جوعاً (الجوع أو الركوع).
ويعطي الاسم غير الرسمي لحملة اليرموك – “الجوع حتى الركوع” – فكرة عن منطق أفعال النظام. [9] تشير كلمة “ركوع” إلى أن الحصار يمكن أن يحقق أكثر من استسلام أو فرار قوى المعارضة، فهو يعيق أيضاً المزيد من القتال. وبإجبار السكان على التركيز على البقاء على قيد الحياة، يمكن للنظام إخضاع بلدات بأكملها وثني المنتسبين المحتملين لقضية المعارضة. النصر العسكري غير كاف، إذ يجب أن يكسر نظام الأسد روح المقاومة وقد راهن على أن الغذاء أفضل وسيلة للقيام بذلك.
أثبت هذا التكتيك فعاليته بوحشية. في فبراير/شباط 2014، قدرت الأمم المتحدة أن 240000 مواطناً سورياً محاصرون بحواجز عسكرية، الغالبية العظمى منها للقوات الحكومية. وبالإضافة إلى مخيم اليرموك، يمكن للنظام اعتبار عدد من ضواحي دمشق الأخرى والمدن الصغيرة المنتشرة في جميع أنحاء سوريا انتصارات تحققت بشكل رئيس عبر هذه الطريقة العريقة. قال الناشط أورهان غازي، الذي غادر مدينة حمص القديمة بموجب هدنة مايو/أيار: “ما رأيته منذ غادرت الحصار هو أن مدنيي حمص أخذوا يبتعدون عن العقلية الثورية؛ هم الآن ببساطة يحاولون العيش، لا أكثر”. [10] وقد ساعدت سيطرة النظام على الحصول على الغذاء في وصوله إلى أماكن لا يمكن أن تصلها الأسلحة التقليدية. قال أبو جلال التلاوي، وهو قصاب قبل الحرب غادر حمص في فبراير/شباط: “ضربوا المكان بالصواريخ، لكننا لم نرحل. قصفونا بقذائف الهاون، لكننا لم نرحل، استخدموا الدبابات والقناصة لكننا لم نرحل. ولكن الآن لم يبق مواد غذائية. [11] الجوع هزمنا”.
المواد الغذائية كخدمة اجتماعية
في زمن الحرب، يعمل توفير المواد الغذائية جنباً إلى جنب مع الحرمان. وتبرز برامج الرعاية في حسابات كافة القوى التي تأمل في حكم سوريا – ويأتي توفير الخبز في طليعة هذه الاهتمامات.
في رقعة واسعة من الأراضي الخاضعة لسلطة النظام، تتوفر معظم السلع الأساسية. وليس من قبيل الصدفة أن استورد النظام كميات كبيرة من القمح من أوكرانيا وروسيا مع زيادة الإنفاق بمقدار ثلاثة أضعاف على دعم الخبز طويل الأمد. ويصف الموقع الإلكتروني للشركة العامة للمطاحن السورية سياسة الرعاية الاجتماعية بأنها التزام حكومي محصن، “خط أحمر” لن يتجاوزه النظام على الرغم من تدهور الاقتصاد بسرعة في سوريا.
وتكشف مقابلات مع سكان دمشق واللاذقية أن الخبز المدعم لا يزال متوفراً على نطاق واسع. علق مصدر من حي باب شرقي في العاصمة أن “الخبز لا يزال أرخص بكثير منه في لبنان أو في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون.” وأضاف المصدر ، مشككاً في شيطنة النظام لمعارضيه ولكنه كان ممتنناً للأمن التي يوفره: “على الرغم من وجود خطوط وأسواق سوداء أكثر من ذي قبل، إلا أننا لا نريدها عندما يتعلق الأمر بالأغذية الأساسية”. وأكد صديق مقرب في حي الميدان في العاصمة على سكايب: “أصبح الغذاء أغلى ولكن الخبز لا يزال متوفراً ورخيصاً نسبياً. أنا لا أعرف كيف سنبقى على قيد الحياة دونه”. وقد أصبح توفير المواد الغذائية أداة يسترضي بها النظام المدنيين المرهقين مع تذكيرهم بمكر بفوائد سلطة الدولة وإدارتها.
وخلافاً للنظام، أصبح الجيش السوري الحر المشتت الآن سيء السمعة بسبب إهمال مسؤوليات الرعاية الاجتماعية. حولت إخفاقاته العسكرية العديد من السوريين ضده، ولكن يقال إن سجله السيء في الإدارة المدنية لعب دوراً أكبر في تراجعه. وأدى النقص واسع النطاق للضروريات الأساسية في المناطق الخاضعة لسيطرته إلى زيادات كبيرة في الأسعار وازدهار السوق السوداء طوال عام 2012. واتهمت جماعات الجيش السوري الحر بالاستيلاء على صوامع القمح وبيع الحبوب في الخارج بدلاً من توزيعها على المواطنين. [12] وقيد هذا النقص المخابز المحلية، ما نجم عنه طوابير طويلة وأدى إلى سخط الزبائن وإحباطهم.
بالمقابل، لا يأتي نجاح الجماعات الجهادية من الأيديولوجيا أو الانتصارات العسكرية فحسب بل أيضاً من الإنجازات على الصعيد الغذائي. ففي ديسمبر/كانون الأول 2012، سيطر مقاتلون مرتبطون بجبهة النصرة على مجمعات الحبوب الأربعة الرئيسية في محافظة حلب. وتسارع إنتاج الخبز لاحقاً، مثبتاً بسرعة سمعة الانضباط والأمانة والكفاءة لجبهة النصرة.
ويبذل داعش جهوداً مماثلة لكسب القلوب والعقول عبر خدمات اجتماعية مختلفة. مرة أخرى، يعتبر الخبز بالغ الأهية: لقد أعاد التنظيم فتح المخابز المقصوفة وأمد المطاحن الخاملة بالدقيق. في أوائل أغسطس/آب 2014، وفق قناة العربية الفضائية، استولى داعش على قرابة 750،000 طن من الحبوب من الصوامع الحكومية في محافظتي نينوى والأنبار في العراق. ثم نقل التنظيم الكثير من الحبوب إلى سوريا، ووزعه باسمه لتعزيز الإمدادات المحلية. وتؤكد كتيبات داعش نية الجماعة “لإدارة المخابز والمطاحن لضمان حصول الجميع على الخبز “.
بيد أن السكان المحليين يتهمون داعش باستمرار بممارسة السيطرة الأحادية على الإنتاج والتوزيع. في دير الزور، على سبيل المثال، زعمت متحدثة باسم المعارضة أن “معظم الوقت لا يوجد خبز.” [13] تنمو دير الزور،التي كانت سابقاً إحدى المحافظات الرئيسية المنتجة للقمح في البلاد، اليوم تناقص بسبب تفجير الحقول وهجرة المزارعين. ويعتبر النظام أن المحافظة تحت سيطرة الإرهابيين، وبالتالي لا توزع شيئاً. وقالت المتحدثة إن الخبز عندما يظهر ، فذلك لأن داعش “إما يوزع الطحين في أكياس، أو يضع الطحين في المخابز ويوفر لها الوقود اللازم للتشغيل.” وتابعت لتصف الخبز بأنه “المكون الأساسي في كسب التأييد الشعبي”. فامتلاك سيطرة شديدة على إمدادات الخبز يسمحلداعش بإطعام مقاتليه، بالتأكيد، لكنه يحرم أيضاً الفصائل المنافسة من فرصة كسب تعاطف السكان.
الغذاء كمساعدات
في الواقع، ليس الغذاء أمراً سياسياً أبداً، حتى عندما يظهر في غطاء المساعدات الإنسانية “المحايدة”. في كثير من الأحيان، تنسى هيئات الإغاثة العاملة في مناطق الحرب أن من يحصل على: ماذا ومتى وأين وكيف، هو المفتاح لتحديد الرابحين والخاسرين.
على مدى السنوات الثلاث الماضية، زادت الأمم المتحدة توزيع المساعدات الغذائية الطارئة في سوريا. لكن هذه العملية كانت بعيدة عن السلاسة أو الفائدة الشاملة. وحتى منتصف 2014، بعد فرض قيود قانونية على الأنشطة الإنسانية داخل حدود الدول الأعضاء، أجازت وكالات الأمم المتحدة توزيع المساعدات فقط في المساحات المتفق عليها مع النظام في دمشق. وعلى الرغم من أن منظمات غير حكومية عدة تدير عمليات محفوفة بالمخاطر للوصول إلى المواقع المحاصرة قرب الحدود التركية، إلا أن الغالبية العظمى من المساعدات الإنسانية أرسلت عبر قنوات ملائمة للنظام. ويفترض أن المعونة الغذائية غير السياسية أدخلت في حسابات النظام زمن الحرب، وكذلك خطابه المتعلق بالرعاية الاجتماعية، عبر الحفاظ على الأمن الغذائي في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة.
حاولت مجموعة من قرارات مجلس الأمن في عام 2014 تخفيف الخلل الواضح في التوزيع. حيث طالب قراره رقم 2139 الذي اعتمد في 22 فبراير/شباط النظام بأن يسمح للعاملين في المجال الإنساني بوصول أكبر إلى المحتاجين. وتكشف وثائق حصلت عليهاForeign Policy أن خطة توزيع برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة زادت انتشارها من 3.7 إلى 4.1 مليون سوري في أعقاب هذا القرار. ولكن هذا الارتفاع لم يشر إلى الامتثال لهذا القرار. أشار تقرير للأمم المتحدة في مارس/آذار إلى أن زيادة الوصول “كانت إلى حد كبير نتيجة تحركات سكانية كبيرة من مناطق لا تسيطر عليها الحكومة” إلى مناطق خاضعة لسلطة النظام. وتبين تقارير برنامج الغذاء العالمي بوضوح أن قدرة المنظمة على التوزيع ما زالت متوقفة بشكل كبير على النظام. في يونيو/حزيران، انخفض عدد السوريين الذين جرى الوصول إليهم مرة أخرى إلى 3.4 مليون. وجرى تجويع المتمردين بينما تم مد السوريين “الموالين” بالغذاء على الفور.
ويواجه برنامج الغذاء العالمي والمنظمات الإنسانية الرئيسية الأخرى سؤالاً جوهرياً: هل يوزعون في أراض تسيطر عليها المعارضة ويتعرضون لمخاطر طردهم من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام؟ اختارت الأمم المتحدة وغيرها، بأغلبية ساحقة، التعاون مع دمشق للحفاظ على الوصول إلى أولئك الذين لم يتم الوصول إليهم. وينظر كثير من السوريين خارج سلطة الحكومة إلى هذا القرار على نحو مختلف. فبالنسبة لهم، الرسالة واضحة: عندما يتعلق الأمر بالمساعدات الدولية، فإن الحياة أكثر قيمة في المناطق التي يسيطر عليها النظام.
وبسبب التفاوت المستمر في التوزيع، تسعى الأمم المتحدة لتعزيز مطالبتها بالحياد عن طريق مناورة دمشق. أقر قرار مجلس الأمن 2165، الصادر في 14 يوليو/تموز، “وصول الأمم المتحدة وشركائها عبر الحدود وعبر خطوط القتال لتقديم المساعدات الإنسانية في سوريا من دون موافقة الدولة.” وفي السابق، سهل مكتب الأمم المتحدة لمنسق الشؤون الإنسانية العمليات العابرة للحدود من تركيا ونفذتها منظمات غير حكومية شريكة مختلفة. وقد حدت المخاوف الأمنية من هذه الجهود. وكان هدف الأمم المتحدة زيادة عدد السوريين الذين يستطيع برنامج الأغذية العالمي، وهو إلى حد بعيد أكبر موزع للمساعدات الغذائية الطارئة، الوصول إليهم عبر السماح بالدخول إلى الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة. وفي تقرير صدر في سبتمبر/أيلول 2014، زعم برنامج الأغذية العالمي الوصول إلى 580000 شخصاً في عمليات عبر خطوط القتال على مدى ستة أسابيع في أعقاب القرار، في مقابل 137000 شخصاً في السابق.
ضمن مسار هذه التغييرات، أصر برنامج الغذاء العالمي على أنه يحاول فقط إنقاذ الأرواح. “هدفنا بسيط – تقديم المساعدات الغذائية إلى سوريا بأكملها، والوصول إلى الجميع وكل من يحتاج إليها، بغض النظر عن المكان الذي يوجدون فيه”، قالت المتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمي دينا القصبي في مقابلة بعد صدور قرار مجلس الأمن 2165. [ 14] برأيها، يعزز القرار قضية البرنامج أن عمله محايد سياسياً. “الأطفال الجياع والمشردين لا يعرفون أو يهتمون بأنهم في منطقة تسيطر عليها الحكومة أو المعارضة”، وأضافت. “هم يريدون فقط الطعام ومكاناً آمناً للعيش.” كل ذلك صحيح، ولكن التعلق بلغة الإنسانية المحايدة يمكن أن يعمي عن التداعيات السياسية للمساعدات.
وتقول القصبي إن البرنامج يعمل بشكل وثيق مع “شركاء محليين” لتوزيع المساعدات الغذائية، وتدخل المنظمة الآن مناطق يصعب الوصول إليها في سوريا عبرمعبري باب السلام وباب الهوى على الحدود التركية ومعبر الرمثا من الأردن. لكن تصريحاتها لا توضح كيف يمكن أن يعزز العمل شرعيتهم مع المجموعات المحلية. فتوصيل المساعدات التي تتطلب موافقة الجهات المسلحة له عواقب سياسية، لأن تلك الجهات تحصل على اعتراف من المجتمع الدولي وتوفر الغذاء للسكان المحليين. والنتيجة ليست سلبية بالضرورة، إذ يمكن أن تكون المساعدات الإنسانية تحررية أو تراجعية للغاية حسب الترتيبات السياسية التي توضع فيها. [15] ولكن هذه القرارات يجب أن تناقش ويجادل فيها، وهو ما لا تسمح به لغة “الحياد”.
ومن المثير للاهتمام أن نهج البرنامج يبدو وكأنه يبتعد خطوة عن التسييس الواضح للمساعدات في أواخر التسعينيات.[16] وقد تميزت تلك الفترة بالجهود الدولية لدعم اتفاقات السلام بوساطة خارجية، والتي بدورها نظمت مساعدات حول سن مثل هذه الاتفاقات. ولكن ليس هناك اتفاق يلوح في الأفق في الحالة السورية. وتبدو مهمة البرنامج في سوريا وكأنها عودة إلى برامج الوصول التفاوضية التي اتسمت بالتدخلات أثناء أولى سنوات ما بعد الحرب الباردة. وعدلت المبادئ التي تقوم عليها تلك المهمات من أجل العمل في ظروف الصراع الدائر، مع تفضيل مبادئ عدم الانحياز والحياد. قد يكون هذا التغيير أو قد لا يكون مرتبطاً بعجز المجتمع الدولي عن التوصل إلى حل سياسي. باحتواء وإدارة المعاناة داخل سوريا ومخيمات اللاجئين في البلدان المجاورة، يمكن أن يتجنب المجتمع الدولي مواجهة جذور الصراع مباشرة. تريح المساعدات الغذائية الضمير العالمي بينما تساهم ضمنياً في الجمود السياسي الدولي.
ما لا يفهمه العاملون في المجال الإنساني، أو لا يستطيعون الاعتراف به علناً، هو أنه في سوريا، لا يوجد شيء غير سياسي، لاسيما الغذاء. العمل الإنساني، بجوهره، تدخل سياسي. [17] والمشاريع المثالية من الناحية الفنية وأفضل الممارسات الدقيقة لا وجود لها. ولا تؤدي هذه العبارات إلا إلى تضليل الجهات المانحة. ما يخدم الوكالات الإنسانية والمواطنين السوريين بشكل أفضل أن يواجه قطاع المساعدات مباشرة هذه الحقائق وليس التفجع عليها.
إن الحاجة الملحة لإعادة إدماج الغذاء في الاهتمامات التجريبية والنظرية ليست مجرد انشغال علمي. يوضح الاقتصاد السياسي للغذاء مخاوف ومكائد الذين يقاتلون في سوريا، فضلاً عن الصعوبات اليومية والخيارات متعددة الجوانب التي يواجهها الذين يعانون أثناء الحرب. ومع إدماج الغذاء في تفاهمات الحرب، تصبح تصرفات السكان المحاصرين وحسابات قادة المعركة والخيارات المتعارضة التي يتخذها نشطاء محليون أكثر وضوحاً. لا يتبدد ضباب الحرب إلا بعد مضي بعض من الوقت. وسواء كان سلاحاً أورعاية اجتماعية أو مساعدات، يبقى الغذاء محورياً للصراع.
الحواشي
[1] جريدة الشرق الأوسط، 24 ديسمبر/كانون الأول 2012؛ ماكلاتشي، 21 يناير /كانون الثاني 2013.
[2]الفيديو متوفر على الإنترنت هنا.
[3]رامي زريق، “الحرب الأهلية وتدمير النظام الغذائي في سورية”، مجلة الزراعة، نظم الغذاء وتنمية المجتمع 3/2 (شتاء 2012-2013(.
[4] المركز السوري لأبحاث السياسات، سوريا: إنسانية التبذير (مايو/أيار 2014(.
[5] ماكلاتشي، 21 يناير/كانون الثاني 2013.
[6] رويترز، 6 سبتمبر/أيلول 2014.
[7] رويترز، 8 فبراير/شباط 2013.
[8] ديلي ستار، 18 فبراير/شباط 2014.
[9] رويترز، 30 أكتوبر/تشرين الأول 2013.
[10] سوريا مباشر، 22 مايو/أيار 2014.
[11] سوريا مباشر،13 فبراير/شباط 2014.
[12] وكالة أعماق سوريا ، 5 فبراير /شباط2013.
[13] سوريا مباشر، 30 يونيو/حزيران 2014.
[14] مقابلة مع دينا القصبي، عمان، 2 سبتمبر/أيلول 2014.
[15] جيني إدكينز، لمن الجوع؟ مفاهيم المجاعة، ممارسات المساعدة (مينيابوليس: مطبعة جامعة مينيسوتا، 2000)، ص. 131.
[16] مارك دوفيلد، “الطريق الليبرالي للتنمية ومأزق التنمية-الأمن: استكشاف الفجوة العالمية في فرص الحياة”، حوار الأمن 41/1 (فبراير 2010).
[17] مارك كاتس، “السياسة والإنسانية”، فصلية وضع اللاجئين 17/1 (1998(.
المصدر
Starvation, Submission and Survival: The Syrian War Through the Prism of Food