ألا ينبغي على القادة العرب ألا يقتلوا شعوبهم؟
تدرس الجامعة العربية اليوم طلباً بتجميد عضوية سوريا لقتلها المدنيين، قُدم هذا الطلب من قبل المجلس الوطني السوري ومنظمات حقوق الإنسان ومجموعة واسعة من الجهات الفاعلة الأخرى . قلة هم من يتوقعون أن تؤثر الجامعة العربية تأثيراً خطيراً على سلوك نظام الأسد. ولكن، بصراحة، حتى النظر في مثل هذه الخطوة أمر يبعث على الدهشة . منذ متى كان القادة العرب يوافقون على سقوط شرعية نظام إذا أقدم على قتل الكثير من شعبه؟
الانتشار السريع لقاعدة جديدة ضد الأنظمة العربية التي تقتل شعبها هو بصراحة تغيير مذهل، ولكن لم يُلتفت إليها بشكل كبير، في اللعبة الإقليمية. منذ أن دعمت الجامعة العربية تدخل الامم المتحدة في ليبيا في شهر آذار، أصبحت فكرة معاقبة الأنظمة التي ترتكب جرائم وحشية في المنطقة، جزء طبيعي من النقاش السياسي العربي الرسمي، والمنصوص عليه في قرارات مجلس الجامعة العربية. دول مجلس التعاون الخليجي أقرت خطة للتحول السياسي في اليمن، وهذا الشهر، أدانت الجامعة العربية العنف في خطتها للسلام في سوريا، ودعت إلى تغييرات سياسية بعيدة المدى. مع أنّ خطة الجامعة لم توقف أعمال العنف إلاّ أنّ فكرة أنه ينبغي عليهم فعل شيئ ، يعد شيئاً جديداً حقاً — وله آثار كبيرة أبعد من مجرد نتائج فورية في أيّ من البلدين.
دعونا نتذكر كيف كان من المستبعد اتفاق الزعماء العرب على مبدأ سقوط شرعية الحكم عن أي نظام يُقدم على قتل شعبه . فهذا ما دأبت الأنظمة العربية على فعله لعشرات السنين. فبقي العاهل الاردني الملك حسين على العرش في عام 1970 على الرغم من قتل قواته للفلسطينيين في أيلول الأسود الشهير. وفي سوريا لم يفقد حافظ الأسد شرعيته عندما دكت قواته حماة في عام 1982. ولم يتعرض الرئيس العراقي صدام حسين إلى أي عقوبات ثقيلة المعيار بسبب حملة الإبادة الجماعية ضد الأكراد العراقيين في أواخر الثمانينات. واستجاب العرب ببرود على الوحشية السودانية في دارفور خلال الألفية الجديدة 2000. بالتأكيد كان هناك قلق عام كبير بشأن معاملة اسرائيل للفلسطينيين أو لمعاناة العراقيين في ظل العقوبات الدولية خلال التسعينات، ولكن هذه العقوبات كانت مؤطرة على آنها إساءة للعرب من قبل قوى أجنبية معادية و ليست إدانة للقادة العرب على طرقهم القمعية. لعقود من الزمان، كان من صميم المعايير العربية لسيادة الدولة رفض وضع أي معايير خارجية لشرعية النظام .
بل أكثر من ذلك، إن هؤلاء القادة لا يمكنهم الآن النظر بشكل آمن الى العمى الأخلاقي المتعجرف الذي أصابهم طوال عقود. فتقريباً كل زعيم عربي إما أنه قمع المتظاهرين في الوقت الراهن أو يعلم أنه في غضون أسابيع يمكن أن يكون على نفس الرصيف. فأيّد السعوديون تدخلاً في ليبيا في نفس اللحظة التي أرسلت فيها قوات الى البحرين وأيدت القمع الشامل، وانتهكت مجموعة واسعة من المعايير الدولية لحقوق الإنسان. إذا قررت عمان والرباط أو الجزائر إرسال الجيش ضد المتظاهرين العزل، فهل هم متأكدون بأنهم لن يتعرضوا للمساءلة ولنفس المعايير التي أُقرت لدمشق وصنعاء وطرابلس؟ على الأرجح ، لم يكن هؤلاء القادة يعتقدون بأنهم يخلقون سابقة عندما تحركوا ضد القذافي. ولكنهم فعلوا.
كيف نفسر تبني هذه القاعدة الجديدة؟ أشك في أن القادة العرب كانوا على علم بانهم يسجلون سابقة يمكن استخدامها ضدهم. ولاشك في أن عداءاً شخصياً تجاه الزعيم الليبي كان دافعاً للسعوديين والقطريين، أو أنّ لهم أملاً في تحقيق طموحات اقليمية على حساب ليبيا. ومن المحتمل أن العديد من القادة العرب كانوا يأملون ببساطة صرف انتباه الدول الغربية باتجاه أفريقيا الشمالية لتشتيت المجتمع الدولي عن ممارستهم القمعية. ربما كانوا على ثقة من أن هذه المعايير لن تمارس إلاّ ضد من هم خارج هيكل التحالف الغربي ليبيا وسوريا، بالتأكيد، ولكن ليس المملكة العربية السعودية أو الأردن. ولكن مهما كانت نياتهم، أنشأ التدخل الليبي معياراً جديداً ولغة جديدة للمنافسة السياسية في السياسة العربية التي تقود جدول الأعمال الإقليمي. استخدامه الآن في سورية يشير إلاّ أنّ السيطرة على هذه السياسة الجديدة أو وضعها جانبا لن يكون سهلا .
المعيار الجديد قد يؤثرعلى مستويات متعددة. فالمجال العام العربي مليئ بالشكاوى على مختلف المستويات ضد أعمال القمع التي تقوم بها أي حكومة قائمة، أي أنّ هذه السياسة يمكن أن تؤخذ، من حيث المبدأ، من قبل الغرباء المهتمين. المنظمات غير الحكومية والناشطين من الشباب، وقد كرست جميع وسائل الإعلام المستقلة، من نشطاء المواقع والصحف إلى قناة الجزيرة، طاقاتها لتسليط الضوء على انتهاكات قاسية لحقوق الإنسان. جرى تمكين المنظمات الدولية ومنظمات غير حكومية مثل هيومن رايتس ووتش للمطالبة بتطبيق المعايير المستخدمة.
وثق وابل أشرطة الفيديو، التي وزعت عبر شبكة الانترنيت وبثت بشكل روتيني على قناة الجزيرة، الوحشية وجعلت العنف فجاً لا يمكن إنكاره. الآن، يمكن استدعاء أي واحد من هؤلاء القادة الذين وقّعوا على إلغاء الشرعية لكل من القذافي والأسد أو صالح لمحاسبتهم في حال اطلاقهم العنان للقوة العسكرية ضد شعوبهم.
الأمر الملاحظ أن هؤلاء القادة قبلوا إلى حد كبير المعيار المعتاد القائل بمصادرة شرعية النظام عند وصول العنف الداخلي إلى مستوى معين. لا أحد يقول أن الجامعة العربية قد تصرفت بشكل فعّال في الدفاع عن هذا المعيار الجديد — فسفك الدماء الجاري في سوريا، وهلاك المجتمع المدني في البحرين، والجمود القاتم في اليمن يشهد بكل وضوح أنها لم تفعل ذلك. لكنهم يتحدثون الآن تقريباً بلغة المعايير الدولية لمكافحة الإفلات من العقاب. قواعد لا تحتاج الامتثال الكامل في السلوك بالنسبة لهم كي تكون ذات أثر كبير في العلاقات الدولية. الحقيقة البسيطة الآن هي أن كلاً من الخطاب الشعبي والرسمي السياسي العربي يبدأ من فرضية أنه ينبغي معاقبة الأنظمة العنيفة محلياً أو حتى إزالتها من السلطة، وهذا بالفعل تغير كبير في لعبة السياسة العربية.
بالطبع، هذا لم يمنع الأسد وصالح من إطلاق العنان لكلاب الحرب. لكن ومن دون شك فإن هذه القاعدة غيرت بشكل أساسي وغير قابل للإنكار الرد الإقليمي والدولي على مثل تلك القرارات، برفع التكلفة السياسية تغيير التغطية الإعلامية المبينة لاشمئزاز الجماهير، مما يعطي استراتيجية جديدة لحركات المعارضة. هذا التغير يقدم معادلة محتملة، ولكن غير مؤكدة، لردود جديدة، كحكم من محكمة الجنايات الدولية، والعقوبات الدولية، وتجميد العضوية في الجامعة العربية، وحتى التدخل العسكري. إن احتمال الإستجابة لمناشدات المجلس الوطني السوري و ناشطي حقوق الانسان في اليمن يغيير الحسابات الإستراتيجية لأي شخص. ما وراء التحركات العربية على وجه التحديد، وتدخل ليبيا وخطاب إدارة أوباما، والخطاب الدولي الجديد بشأن المسؤولية مهم أيضاً. أعطى قرار الأمم المتحدة رقم 1973 تفويضاً دولياً واضحاً لتدخل حلف شمال الاطلسي في ليبيا، حتى لو شكا الكثير من أن القرار قد توسع ليشمل بعد ذلك تغيير النظام ودعم العمليات العسكرية التي لم توجد في القرار الأصلي. كان هذا الإختلاف متجذراً في الخطاب المثير للجدل والقوي، على نحو متزايد، عن مسؤولية حماية المدنيين. بطبيعة الحال، لايزال موضوع الحماية هذا موضع جدل مرير، حيث أن العديد من النقاد يشتكون ان هذا يمثل إمبريالية مستترة أو أنه يشجيع في الواقع على المزيد من الصراع المدني.
هذا المنظور يجعل نتائج التظاهر والمعايير العالمية لمكافحة الإفلات من العقاب عنصراً أساسياً في المنطق الاستراتيجي والمعياري للتدخل في ليبيا. وراء الهدف الفوري الغالي، بانقاذ الأرواح الليبية، يأمل مهندسو التدخل، على الأرجح، تعميق وتعزيز المعايير العالمية لمكافحة الإفلات من العقاب. وهذا يعني أخذ العبرة من ليبيا وتطبيق المعيار على نطاق واسع لحالات أخرى في المنطقة وحول العالم. وبالتالي فإن بيان أوباما أن الأسد، مثل القذافي قبله، قد فقد شرعيته لا يضعف من قوة الرئيس السوري ولكنه يدعم المعيار المتطور.
بطبيعة الحال، لا ينبغي أن ينظر إلي تطور المعيار باعتباره نهاية سعيدة، فالحقيقة هي أن هذه المعايير الدولية لا تزال تنتهك. عدد الجثث في سوريا يتزايد كل يوم. الجمود اليمني لم تظهر عليه أي علامات للانهيار. البحرين تقريباً خارج التغطية الإخبارية. الجامعة العربية والأمم المتحدة، وجميع الجهات الفاعلة الدولية الأخرى يكافحون من أجل العثور على أي مسار عمل فعاّل. ولكن لا ينبغي أن يُنظر إلى هذا على أنه فشل بسيط. من المهم أن كلاً من الرأي العام العربي والقادة العرب يعملون الآن من مبدأ مشترك لتنظيم الخطاب القائل، بأن النظم التي تمعن في قتل الكثير من شعبها تفقد شرعيتها .وينبغي الاعتراف بهذا المعيار غير المعلن والتصفيق له. وينبغي أيضاً تعزيز ذلك المعيار عن طريق اتخاذ خطوات جادة لتنفيذه، وتطبيقه بطريقة متوازنة.
لن يكون من السهل بناء هذا المعيار، فسيشيع النفاق والمعاملة بمعيار مزدوج. وكمعظم المعايير الدولية ستُحترم على الورق ولن تطبق دائماً. و لكننا قطعنا طريقاً طويلاً بظرف سنة واحدة من منطقة عربية لا تقبل باي تدخل يمس بسيادتها إلى طريق يتوافق فيه الرأي العام العربي مع الجامعة العربية ويقضي بتجميد ممتلكات القادة واقتيادهم الى محكمة الجنايات الدولية لمعاملتهم الوحشية لشعوبهم.
المصدر:
Arab leaders shouldn’t kill their people
Foreign Policy
http://lynch.foreignpolicy.com/posts/2011/11/11/since_when_do_arab_states_care_about_rtp