كراهية على الخريطة

مقدمة

دأبت العديد من وسائل الإعلام الغربية في الآونة الأخيرة على تصنيف الشخصيات العربية في المقالات والتقارير الأخبارية في قوالب طائفية ونشر خرائط “طائفية” لسوريا بدعوى تحديد مواقع الاحتجاجات ضد النظام في سوريا وعلاقتها بالتركيبة الطائفية للبلاد، نود أن ننوه هنا إلى أن هذه الخرائط غير دقيقة في أغلب الأحيان كما أنها تعكس أنماطاً معينة من التفكير لدى بعض الدوائر الإعلامية والسياسية في الغرب التي تسعى لفرض رؤية معينة على الصراع الدائر في سوريا وطبيعة النظام السياسي المستقبلي فيه.

من الصعوبة البالغة بمكان رسم خرائط توضح التركيبة الطائفية في بلد تتنوع وتتداخل مكوناته الطائفية مثل سوريا (أو لبنان أو العراق)، فغالباً ما يعيش أبناء الطوائف المختلفة في مناطق سكنية مختلطة أو متجاورة سواء في الأرياف أم المدن الكبرى التي شهدت هجرات واسعة من شتى المناطق، لذلك فإن أي محاولة لوسم منطقة جغرافية بأكملها بانتماء طائفي معين لا تخلو من إغفال أوتشويه للكثير من الحقائق على الأرض، كما تتجاهل هذه الخرائط الانقسامات الأفقية داخل المجتمع السوري وداخل هذه الطوائف كالانقسامات على أسس طبقية اقتصادية.

إلى جانب ذلك فإن حصر الشعب العربي في قوالب طائفية ورسم الخرائط الطائفية عادة استعمارية قديمة مازالت موجودة لدى العديد من دوائر صنع القرار في الدول الغربية، حيث ما تزال النظرة السائدة هناك أن الإنسان العربي غير قادر على الارتقاء بوعيه إلى مستوى المواطنة المدنية، فهو يبقى بالنسبة لديهم أسير طائفته مما يجعله عاجزاً عن تكوين انتماءات أو علاقات سياسية تتخطى حدودها، الأمر لا يقف عند ذلك فالعديد من هذه الخرائط يعكس تصور ومخططات الساسة الغربيين لمستقبل المنطقة، حيث يتم صياغة وصناعة القرارات السياسية بناءً عليها، وهذا ما حدث بالضبط في العراق حيث دخل الأمريكيون إلى هناك بتصور مسبق أن العراقيين مقسمون طائفياً بحدود جغرافية واضحة، لذلك وقبل بروز أي انقسامات طائفية في العراق على الأرض قام الأمريكيون بتأليف المجلس الوطني العراقي الانتقالي –تحت إشراف السفير الأمريكي آنذاك بول بريمر– على أسس المحاصصة الطائفية مما عمل على ترسيخ انقسامات المجتمع العراقي وساهم بشكل رئيسي في أحداث العنف الطائفي التي اجتاحته بعيد الغزو الأمريكي.

المقالة التالية للكاتب البريطاني المعروف روبرت فيسك والتي تعود إلى العام 2007 توضح الدوافع والأبعاد الخفية لهكذا خرائط، على الرغم من أن المقالة تتحدث عن الحالتين العراقية واللبنانية إلا أنها تنطبق بشكلٍ كبير على الحالة السورية أيضاً، لذلك ارتأينا إعادة نشرها على مدونتنا في الوقت الحالي لتنبيه القراء إلى القضايا الآنفة الذكر.

فريق المترجمون السوريون الأحرار


كراهية على الخريطة

روبرت فيسك Robert Fisk

لمَ نحاول تقسيم مواطني الشرق الأوسط و شعوبه؟ لمَ نحاول تقطيعهم, و جعلهم متخلفين, و تذكيرهم – في استمرار, و في خبث وعنف – بانقساماتهم, و شكوكهم و قدرتهم على الكراهية المتبادلة؟ هل السبب هو عنصريتنا المعتادة؟ أم ثمة أمر أكثر سوداوية في نفوسنا الغربية؟

انظروا إلى الخرائط. عل أنا الوحيد الذي يشمئز من نزعتنا الصحافية لنشر خرائط الشرق الأوسط “المذهبية”؟ لقد فهمتم قصدي. فلقد ألفنا جميعاً خارطة العراق بألوانها الرمزية. الشعية في أسفلها (طبعاً), و السنة في منتصف “المثلث” – في الواقع يشبه ثمانيّ الأضلاع (أو خماسيّ الأضلاع) – والأكراد في الشمال; أو خارطة لبنان, حيث أعيش: الشيعة في أسفلها (طبعاً) والسنة في صيدا وعلى ساحل بيروت, والشيعة في الضواحي الجنوبية من العاصمة. يوجد سنة وشيعة في المدينة – أما المسيحيون الموارنة فأبعد إلى الشمال, والسنة في طرابلس, والمزيد من الشيعة شرقاً. كم نحب هذه الخرائط. فهي تُسهِّل عملية الكراهية.

طبعاً, ليس الأمر بهذه البساطة. هل أخبر سائقي السُّنّي, عبد, أن خارطتنا تُظهر أنه لم يعد في إمكانه أن يركن السيارة بالقرب من منزلي؟ أم أخبر الناشر المسلم لنسخة كتابي العربية “ذا غريت وار فور سيفيلايزايشن” (الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة), أنه لا يستطيع لقائي بعد الآن في مكاننا المفضل في مطعم بول في بيروت الشرقية لتناول الغذاء, لأن خرائطنا تُظهر أن هذه منطقة المسيحيين الموارنة في بيروت؟

في الطريق الجديدة (السنية) غادرت عائلات شيعية منازلها, مؤقتاً, في عطلة صغيرة, تاركة المفاتيح مع الجيران, وهذه هي الحال دوماً, ما يعني أن خرائطنا لبيروت أصبحت أنظف وأسهل على الفهم. ويحدث الشيء نفسه في بغداد على نطاق أوسع بكثير. لقد أصبحت ألواننا الرمزية أنقى. ولا داعي لاستخدام عبارة “منطقة مختلطة” التي تزعجنا.

لقد فعلنا الأمر نفسه في البلقان. كان وادي درينا في البوسنة للمسلمين حتى “طهّره” الصرب. سربرينيشا؟ امحُ عبارة “منطقة آمنة”, واكتب “منطقة للصرب”. كراجينا؟ كانت صربية إلى أن سيطر عليها الكرواتيون. هل سميناهم “كرواتاً”, أم “كاثوليكيين” أم الاسمين على خارطتنا؟

إن ذنبا في هذه اللعبة الطائفية واضح. نريد تمييز “الآخرين”, “هم”, أعدائنا المحتملين, بعضهم عن بعض, بينما نظل, نحن الغربيين المتحضرين بقيمنا الموحدة الراقية المتعددى الثقافة فوق مستوى الشبهات. يمكنني أن أرسم خارطة مذهبية لمدينة بيرمينغهام البريطانية مثلاً – مقسمة بين “مسلمين” و”غير مسلمين” – ولكن لن تنشرها أي صحيفة. ويمكنني أن أرسم خارطة عرقية جدّاً لواشنطن, تظهر فيها الخطوط الفاصلة بين مجتمعات “البيض” و”السود”, لكن “واشنطن بوست” لن تنشر خارطة كهذه أبداً.

تخيلوا كم ستستمتع “نيويورك تايمز” بتلوين مناطق بروكلين وهارلم والنهر الشرقي, بالأبيض والأسود و البني, وتوزيع سكانها: إيطاليين, وكاثوليكاً, يهوداً وبروتستانتاً بيضاً, أو متعة “تورونتو غلوب أند مايل” بالتمييز بين مونتريال الفرنسية وغير الفرنسية (يمر الخط الفاصل بينهما عبر نفق المدينة); أو تورونتو (حيث أصبحت منطقة “إيطاليا المصغرة” أوكرانية أو يونانية), و تلوين ضواحي مسيساوغا بالأخضر للمسلمين طبعاً. لكننا لا نرسم هذه الخرائط الهتلرية لمجتمعاتنا. فسيكون هذا أمراً لا يُغتفر, ولاأخلاقياً, وهو ما لن نفعله أبداً في حضارتنا الثمينة التي نحرسها في حذر.

مررت بالقرب من كشك صحف في نيويورك هذا الأسبوع, فلمحت مجلة “تايم” المجحفة وعلى غلافها – الذي يشبه فعلاً أغلفة المجلات النازية في الثلاثينات – رجلان مقنّعان, أحدهما بالأسود, و الثاني أخفى وجهه بوشاح مرقع. كان العنوان الرئيس: “السُّنة ضد الشيعة”, “لمَ يكرهون بعضهم بعضاً”. كان هذا طبعاً تحليلاً للحرب الأهلية في العراق. في المناسبة, إنها حرب أهلية تحدث عنها الناطق الرسمي الأميركي في بغداد في آب/أوغسطس 2003 في حين لم يتصور عراقي واحد أن هذا ما سيحدث لاحقاً.

اشترِ مجلة “تايم”, عزيزي القارىء, وافتح الصفحة 30. ما الذي ستجده؟ “كيف تُميّز بين السني والشيعي”. مفيد, صح؟ وتليه مقالات تحتوي معلومات مفيدة للتمييز بينهما. “الأسماء” مثلاً. “ثمة بعضها الذي يحمل معنى مذهبياً: أبو بكر, عمر, وعثمان. إن من يحملون هذه الأسماء سُنة بالتأكيد. ومن كان اسمه عبد الحسين أو عبد الزهراء (في المناسبة, لم أقابل في حياتي أحداً اسمه عبد الزهراء), فهو شيعي على الأرجح”, ثم نجد مقالات تحت عناوين, مثل “الصلاة”, “المساجد”, “المنازل”, “اللهجات”, “اللكنات” و”السيارات” حتى… ارحمنا يا الله. وأخيراً – للقراء التائهين غير المصدقين, يخبرنا مقال بنوع ملصقات السيارات التي يجب أن ننتبه إليها (إذا لمحت صورة للإمام علي فستعلم أن السائق شيعي على الأرجح), أو نوع لوحة التسجيل (إذا كانت السيارة مسجلة في مقاطعة الأنبار, فهذا معناه أن السائق سني على الأرجح).

شكراً مجدداً. لا أعلم لمَ لا يشتري الجيش الأميركي أعداد هذا الأسبوع من “تايم”, ويرميها فوق بغداد ليساعد أي مجرم محلي جاهل على التعرف إلى أهدافه في سهولة. ولكن, هل تساعدنا “تايم” على التعرف إلى المجتمع الأميركي المنقسم في شدة (من يملك نفايات أكثر في حديقته في واشنطن, ما هي الملصقات التي يجب أن ننتبه إليها في ديربورن, ميتشيغان)؟ بالتأكيد لا.

أنا أيضاً مذنب بلعب هذه الألعاب المذهبية الصغيرة في الشرق الأوسط. فأنا أسأل أي لبناني ألتقيه عن المنطقة التي وُلد فيها, لا لأتذكر الأنهار والجبال بالقرب من مسقط رأسه, بل لأضع رمزاً له في خارطتي. لكنني أتحرر من هذا التصنيف في سهولة. فمن يخبرني أن أصله من جنوب لبنان (شيعة), يتضح أنه يعيش في قرية حاصبيا الدرزية. ومن تخبرني أنها من جبيل (مسيحيون) يتضح أنها من القلة الشيعية في المنطقة. آه, لو تغادر هذه الأقليات المزعجة لتعيش في مناطقها المناسبة في خرائطنا المذهبية الاستعمارية.

و نتابع التحاور مع ملوكنا السُّنة في الشرق الأوسط – و نستمع إلى هذيانهم عن “الهلال الشيعي” – لا عجب أننا نكره شيعة إيران إلى هذا الحد. ونتابع تقطيع الأراضي وتقسيمها, ونطبع المزيد المزيد من خرائطنا العنصرية, و أتساءل في جدية تامة هل ننوي الترويج لحروب أهلية في أنحاء هذا القسم من العالم. أتعلمون؟ أظن أننا نريد هذا.

“ذي إندبندنت”, 3 آذار/مارس 2007

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s