الترجمة منقولة عن موقع الجمهورية
مايكل إغناتيف Michael Ignatieff
ترجمة : كرم نشار
في نصّه المنشور في ذا نيويورك ريفيو أوف بوكس، يقدّم أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد مايكل إغناتيف دفاعاً كلاسيكياً عن الديمقراطية الليبرالية وتقاليدها الدستورية. يبدأ أولاً من السياق الدولي، حيث يرى في الصعود الحالي لـ«البرزخ» الروسي-الصيني نموذجاً جديداً لـ«العصرنة السلطوية» (authoritarian modernization) التي لطالما جذبت الكثير من الغربيين. ثم ينتقل بعد ذلك لينسج من خلال مراجعات نقدية لأربع منشورات جديدة أطروحته القائلة بأن إعادة البريق والفعالية للديمقراطيات لا يكمن في «فنون الإدارة» وانما في الحيوية الدستورية القائمة على القضاء المستقلّ والمسائلة التشريعية أولاً، وفي كبح جماح سيطرة المال وأصحاب المصالح الفئوية على العملية السياسية ثانياً.
يستخدم إغناتيف مصطلح الليبرالية إذاً بمعناه السياسي بالدرجة الأولى، أي المذهب الملتزم بالدفاع عن الحرية بمعناها الأوسع، والمتمحور منذ نهاية القرن التاسع عشر حول الموازنة بين الحرية الاقتصادية من جهة، وقدرة الرأسمالية وعدم المساواة على تشويه الحريات السياسية وسير العملية الديمقراطية من جهة أخرى. في هذا، ينتمي إغناتيف إلى تقليد فكري يبدأ مع جون ستورات مِل، ويجد تعبيره الأوضح في القرن العشرين مع الفيلسوف الأميركي جون رولز، والمؤرّخ والكاتب البريطاني إيزايا برلين والذي تتلمذ على يديه إغناتيف في أوكسفورد خلال عقد السبعينات. لم يحظ التقليد الأنغلوفوني هذا بكثير من الاهتمام في السياق الثقافي العربي، حيث غلب تاريخياً التأثر بالتيارات الفكرية القارّيّة (هيغل، ماركس، نيتشه، فوكو) وبقي الاهتمام بالمواضيع الدستورية والاقتصاد السياسي (غير الماركسي) ضعيفاً.
والجدير بالذكر أن إغناتيف، قبل أن يعود إلى موقعه الأكاديمي في هارفارد وجامعة تورونتو، ترأّس الحزب الليبرالي في كندا بين عامي 2008 و2011، وقد كان من أهم المنظرين لمبدأ «مسؤولية الحماية» (the responsibility to protect) والقاضي بوجوب تدخل المجتمع الدولي ضد السيادة الوطنية لإحدى الدول من أجل الدفاع عن مواطنيها. إغناتيف بدأ بصياغة أفكاره عن الصعود الصيني-الروسي في مقالات نشرها بخصوص الشأن السوري وفَشَل الغرب في الدفاع عن السوريين تحديداً. ما حدث في مجلس الأمن في بداية عام 2012 كان بالنسبة لإغناتيف نهاية لحقبة «مسؤولية الحماية» وبداية ظهور البرزخ السلطوي في العالم. على الصعيد الشخصي، ينحدر إغناتيف ،كما استاذه برلين، من جذور روسية، وجدّه الكونت بافل إغناتيف كان وزير التعليم في روسيا القيصرية خلال حقبة الحرب العالمية الأولى.
أخيراً، الكتب الأربعة التي يراجعها إغناتيف في مقالته هي:
– السياسة الخارجية تبدأ في الداخل: لماذا يجب أن نرتب البيت الأميركي الداخلي، ريتشارد هاس؛
– ضبط النفس: الأسس الجديد للاستراتيجية الأميركية، باري بوزن؛
– الثورة الرابعة: السباق الكوني من أجل إعادة اختراع الدولة، جون ميكلثويت وأدريان ولدريدج؛
– «إصلاح الضرائب لتشجيع النمو والعدالة»، ورقة من تأليف جوزيف ستغليتز.
…
في ثلاثينيات القرن الماضي، كان الزوّار الغربيون لإيطاليا موسوليني وألمانيا هتلر وروسيا ستالين يعودون إلى بلدانهم ومِلؤهم الإعجاب بما لمسوه في تلك الدول من حماس وإحساس عالٍ بوضوح الهدف الوطني المنشود، حماس كانت الديمقراطيات الغربية تبدو بالمقارنة معه ضعيفة ومهلهلة وغير فعالة.
الديمقراطيات اليوم تمر بمرحلة مشابهة من الإحساس بالحسد والإحباط. فهناك أنظمة سلطوية منافسة تنضح بالغرور والثقة بالنفس. في الثلاثينات، كان الغربيون يذهبون إلى روسيا ستالين لتأمل محطات قطار الأنفاق في موسكو، واليوم يذهبون إلى الصين ليستقلّوا القطار-الرصاصة (the bullet-train) من بكين إلى شنغهاي. وكما في الماضي، فهم يعودون اليوم مع الأسئلة ذاتها عن قدرة الأنظمة السلطوية على بناء سكك حديدية متطورة بسرعة هائلة، في حين تحتاج الديمقراطيات لأربعين عاماً لتقرّر فقط أنها لا تستطيع البدء بالإنشاء بعد. لحظة فرانسيس فوكوياما –أي عندما قيل للغربيين عام 1989 أن الديمقراطية الليبرالية هي الغاية النهائية الوحيدة لكل النضالات السياسية– تبدو اليوم كقطعة زخرف ميتة من عصر أحادي القطبية ولى منذ زمن بعيد.
للمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، يبدو وكأن تقدم الديمقراطية الدستورية قد توقف. في تايلندا نفّذ الجيش انقلاباً، في حين لا يبدو واضحاً بعد إن كان جنرالات بورما سيسمحون بتجذر الديمقراطية فيها. لكل بلد إفريقي ديمقراطي ومستقرّ، مثل غانا، هناك بلدان مثل مالي، وساحل العاج، وزيمبابوي، حيث تلاقي الديمقراطية صعوبات جمّة.
في أميركا اللاتينية، تجذرت الديمقراطية في تشيلي، أما في المكسيك وكولومبيا فهي مهدّدة بسبب العنف. وفي الأرجنتين، يَجهد النظام السياسي للتخلص من الإرث الثقيل للبيرونية. في البرازيل، يبدو أن المظاهرات الحاشدة التي خرجت في شهر حزيران الماضي احتجاجاً على الفساد لم تؤثر كثيراً على الزبائنية والفساد في العاصمة برازيليا. في الشرق الأوسط، تبدو الديمقراطية ذات فرص في تونس، أما في سوريا فهناك فوضى، في حين عادت الديكتاتورية الاستفتائية للحكم في مصر. وفي الأنظمة الملكية، الحكم المطلق في صعود.
في أوروبا، حيث تصرّ نخب السياسة على أن حلول مشكلات القارة تكمن في مزيد من الاندماج الأوربي، ثلث الناخبين يريدون اندماجاً أقل. من المجر وحتى هولندا، بما في ذلك فرنسا وبريطانيا، يحصد اليمين المعادي للاندماج الأوروبي المزيد من الأصوات من باب معارضته للاتحاد الأوروبي بشكل عام وللهجرة بشكل خاص. أما في روسيا، فلحظة أوائل التسعينات الديمقراطية تبدو الآن قديمة قِدَمَ الفترة الدستورية القصيرة العمر بين عام 1905 و1914 في روسيا القيصرية.
المصافحة الأخيرة بين فلاديمير بوتين وشي تشينبينغ احتفلت بما هو أكثر من صفقة غاز. لقد كانت رمزاً لبروز تحالف سلطوي يجمع أكثر من 1,6 مليار نسمة ممتدة في فضاء أوراسي يبدأ على الحدود مع بولندا ويمتد نحو المحيط الهادي شرقاً والحدود الأفغانية جنوباً.
هذه المنطقة تضم دولاً تابعة صغيرة مثل كوريا الشمالية، وديكتاتوريات أبوية كالجمهوريات المسلمة المنحدرة من صلب الاتحاد السوفيياتي. تضم أيضاً رعايا مُرغمين مثل جورجيا وأرمينيا ومولدوفيا، حيث تتطلع الجماهير لاستقلال ديمقراطي ناجز في حين يشير القادة الديكتاتوريون إلى المثال الأوكراني ففهامهم باستحالة تطلعات كهذه.
أوكرانيا هي ساحة المعركة بين الديمقراطيات المحبَطة في الغرب والدول السلطوية الصاعدة في الشرق. إذا لم يُسمح لأوكرانيا بأن تختار مسارها الديمقراطي المستقل، فإن دولاً أخرى تحاذي روسيا، ولا سيما تلك التي تضمّ أقليات تنطق بالروسية، ستُمنع أيضاً من الخيار هذا.
يزعم البعض اليوم أن الصراع بين السلطوية والديمقراطية ليس حرباً باردة جديدة، لأن السلطويين لا يملكون هذه المرة أيديولوجيا توسعية كالشيوعية. هذا ليس صحيحاً. الشيوعية انتهت كنظام اقتصادي، أما كنظام سياسي قائم على طغيان الدولة الشامل فهي ما تزال بخير في جمهورية الصين الشعبية كما في دولة بوتين القمعية.
كما أن هذه السلطويات الجديدة لا تعدم أيديولوجيا اقتصادية أيضاً، فهدفها اليوم شكل معروف من العصرنة يجني ثمار الاندماج في السوق العالمي دون أن يضحّي بالسيطرة السياسية والأيديولوجية على الشعوب. النموذج الاقتصادي المتبع هنا هو رأسمالية الدولة الناظمة للأسعار، أما النموذج القانوني فهو حكم المراسيم التنفيذية (الفاسدة الدافع على الأغلب) بدلاً من حكم القانون. نظامها الأخلاقي يرفض الكونية الأخلاقية لصالح ادعاءات بكَون الحضارة الروسية أو الصينية كيانات أخلاقية مكتفية ذاتياً. اضطهاد المثليين في روسيا في هذا السياق لا يبدو تجاوزاً عابراً وإنما تعبيراً عضوياً عن نظرة تلك الأنظمة لنفسها كخط دفاع ضد الفردية الغربية.
تنهل النظرة الاستراتيجية لروسيا والصين من تجارب تاريخية مختلفة، لكن العِبَر المُستقاة من تلك التجارب تبدو متشابهة إلى حد بعيد. في كلا الحالتين هناك تركيز على الإهانات التي ذاقها البَلَدان على يد الغرب. في كلا الحالتين هناك رفض معلن لاعتماد الديمقراطية الليبرالية كنموذج. وفي كلا الحالتين هناك تأكيد على أن ما مرّ على القرن العشرين من ثورات وحروب أهلية يجعل من الحكم المركزي الحديدي ضرورة حتمية.
النموذجان الصيني والروسي من العصرنة السلطوية ينهلان من منابع مختلفة، وسيبقيان متنافسَين فيما بينهما من الناحية الجيوستراتيجية، الأول يصعد، في حين أن يحاول الثاني إبطاء أو إيقاف هبوطه… لكن الاثنين يجدان أسباباً كافية ليتحالفا على المدى المتوسط. تحالفها المصلحي مدهش! فهما يصوّتان معاً في مجلس الأمن، يضطهدان المعارضين السياسيين سوياً، ومعاً يدافعون عن الديكتاتورية الإبادية في سوريا. ومن كراهيتهما المشتركة للنظام العالمي المحكوم أميركياً، تحدثا بصوت واحد منذ أن قصف الأميركيون السفارة الصينية في بلغراد عام 1999.
يقدّم السلطويون الجدد إلى النخب في إفريقيا وأوراسيا 1 طريقاً مختلفاً للتطوير الحديث: النموّ دون ديمقرطية، التقدم دون حرية. هذه هي النغمة التي تريد النخب السياسية الحاكمة في إفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا سماعها، بالأخص الفاسدة منها.
في مواجهة هذه الأنظمة السلطوية الصاعدة، تقدم أميركا نموذجاً محبِطاً لحلفائها وأصدقائها. نظامها الدستوري بقي مَحطّ إعجاب العالم على مدى قرنين من الزمن، أما الآن فهو ينتج الشلل على يد سياسيين استقطابيين من كلا الحزبين في واشنطن. ليس التأثير العالي للمال على السياسة في واشنطن ما يثير حفيظة المعجبين بأميركا في العالم، فالمال يؤثر على السياسة في كل مكان. لكن التفاسير والتبريرات الأيديولوجية النشِطة لقوة المال في واشنطن تبدو بحق مثيرة للاستهجان. بالنسبة للمواطنين في ديمقراطيات ليبرالية أخرى، تبدو عقيدة المحكمة الدستورية العليا –القائلة بأن المال السياسي يستحق الحماية تماماً كما حرية التعبير– ضرباً من ضروب الجنون المُقَونَن. بالنسبة لديمقراطين غربيين آخرين، المال سلطة وليس تعبيراً، وهو بحاجة لأن يُنظّم لكي يبقى المواطنون أحراراً.
من الصعب الدفاع عن الديمقراطية الليبرالية بحماس في العالم عندما يكون أداؤها سيئاً داخل الوطن. هذه الفكرة تدفع ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية ليقول في كتابه السياسة الخارجية تبدأ في الداخل إن الولايات المتحدة الأميركية عليها أن تنظم بيتها الداخلي قبل أن تروّج لقيمها ومؤسساتها في الخارج. الأجندة المطروحة من قبل هاس منطقية، تشمل تنظيم المال العام، وإصلاح القوانين الناظمة للانتخابات والحملات الانتخابية، والاستثمار في التربية، وهي بحق دعوة للعمل. لكن حتى البدء بالعمل على هذه البنود الأساسية يبدو ذا فرص ضئيلة ضمن أجواء العداوة الحزبية القائمة الآن. الديمقراطية تعمل فقط إذا كانت السياسة تعمل بين خصوم (adversaries). أما الآن، فالدستور الأميركي يتم تعطيله بسبب سياسة الأعداء (enemies).
بالنسبة لباري بوزن، أستاذ العلوم السياسة الشهير في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، لا تكمن المشكلة الأميركية في الأداء الديمقراطي السيء في الداخل، وإنما في امتداد أميركا الزائد في الخارج. في سعيها وراء وهم «الهيمنة الليبرالية»، يقول بوزن في كتابه ضبط النفس إن الولايات المتحدة الأميركية دفعت نفسها بتدهور إلى حروب لم يكن عليها أن تبدأها، وروجت لأهداف كـ«حقوق الأنسان» و«الديمقراطية» و«بناء الأمم» بينما لم تكن قادرة على تحقيقها. ومن خلال صرفها الاستثنائي (أكثر من الأصدقاء والأعداء معاً) على الدفاع، فقد سمحت لحلفائها الأوروبيين بالاعتماد المتكاسل عليها، كما أجازت لإسرائيل (خصوصاً من خلال الاستيطان) «قيادة متهورة».
أما فيما لو خفضت ميزانيتها الدفاعية من أربعة ونصف بالمئة إلى اثنين ونصف بالمئة من الناتج القومي العام، يقول بوزن، فإن أميركا ستُجبِر حلفائها على الدفاع عن أنفسهم، وستحرر قرابة 75 مليار دولار سنوياً من أجل إعادة بناء أميركا داخلياً. هذه توصية مفاجئة من شخصية واقعية 2 ومحافظة، لكنها تشير الى أي حد بات نقد الإنفاق العسكري الضخم والغرور الأميركي في العالم يوحّد المحافظين والتقدميين معاً. طرفا المشهد السياسي يتفقان على أن «ضبط النفس» هو المبدأ الناظم الأفضل للاستراتيجية الأميركية.
ضبط النفس يعني إعادة تنظيم الأولويات. يعني ترشيد استعمال القوة الأميركية العسكرية لحماية المصالح القومية الحيوية، والبقاء بعيداً عن حروب الأخرين الأهلية أو أزماتهم الإنسانية بغض النظر عن مدى ما تثيره في الضمير من مشاعر. يعني أيضاً رفض الترويج للديمقراطية أو حقوق الإنسان في مناطق من المستبعد أن تتجذر فيها تلك المبادئ، وإجبار حلفاء كاليابان وإسرائيل والأوروبيين على تحمل الكلفة المالية لأعبائهم الدفاعية، ويعني أيضاً التخلي عن الأفكار الكبيرة المتعلقة بإعادة تشكيل المصالح الدولية العامة والنظام العالمي ككل.
خطاب الرئيس أوباما الأخير في كلية وست بوينت العسكرية يدل على أنه يستمع لعقيدة ضبط النفس الجديدة هذه. لايزال يُقرّ على الصعيد المبدئي بأهمية الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية في الخارج، لكن تركيزه الرئيسي في السياسية الخارجية هو على إعادة الجنود المقاتلين إلى ديارهم، وتخفيض الاشتباكات الأميركية في الخارج، والتركيز على إعادة البناء في الداخل. وبغض النظر عما إذا كان الإجماع حول ضبط النفس هذا نوعاً من الواقعية المتّزنة او الانعزالية التي لا تتجرأ على المجاهرة باسمها، فهو كمزاج عام يعكس الإحساس لدى المحافظين والتقدميين على حد سواء بأن أميركا لا تملك القوة لتشكل أو تقولب النظام العالمي كما فعلت في السابق. على وجه التحديد، هي لا تستطيع أن تتصور نفسها كديمقراطية قيادية في نظام عالمي يتسع فيه عدد الديمقراطيات باضطراد.
على هذه الخلفية المحبِطة، قام رئيس تحرير مجلة الإيكونمست جون ميكلثويت ومدير تحريرها أدريان ولدريدج بنشر كتاب الثورة الرابعة… وهو تاريخ لصعود «الدولة» خلال القرون الخمسة الماضية والصراع الحالي بين الديمقراطية ومنافسيها السلطويين. يسدّد الكاتبان أسهمهما بشكل أساسي على اللاأهلية المبدئية للدولة الحديثة:
«الدولة الحديثة المتخمة خطر على الديمقراطية. كلما ازدادت مسؤوليات هذا الوحش (على حد تعبير توماس هوبز 3 …) ساء أداؤه، وغضب المحكومون أكثر – وغضبهم هذا لا يدفعهم إلا لطلب المزيد من المساعدة».
الطريقة الوحيدة أمام الديمقراطية الليبرالية لتكون قادرة على التصدي للتحدي السلطوي من الخارج والتململ المتزايد في الداخل، حسب الكاتبين، هي التقليل من مسؤوليات الدولة. على الدول أن تفعل أقل، وبذلك يمكنها أن تفعل أفضل.
وكما قد يتوقع المرء، فإن في كتاب الثورة الرابعة كل فضائل وكذلك بعض مثالب مجلة الإيكونمست نفسها. فضائله تكمن في ذلك الفضول الفكري اللامحدود والحماس الكبير للإصلاح. أما المثلب الرئيس فهو العجالة اللاهثة. ففي خمسين صفحة فقط، يُسرع الكاتبان لتعريف القارئ بثلاث ثورات في تاريخ الدولة الحديثة: دولة الحكم المطلق، والتي أنشئت عام 1650 وكان منظّرها توماس هوبز؛ الدولة الليبرالية الدستورية والتي كان الناطق الرئيس باسمها جون ستيورات مل 4 ؛ وأخيراً دولة الرفاه والتي نظّر لها، حسب الكاتبين، الاشتراكيان الفابيان البريطانيان بياتريس وسيدني ويب 5 .
عندما أتى رونالد ريغان ومارغريت تاتشر إلى الحكم، وعدا بثورة رابعة لترويض «الوحش»، لكنهما فشلا في تفكيك دولة الرفاه. حجم الدولة، إذا ما قيس برقم الموظفين فيها أو بنسبة الإنفاق الوطني التي تستوعبه، استمر في الصعود خلال حكمهما. المحافظون الذين قادوا هذه الثورة المضادة اكتشفوا أن التوقعات والاستحقاقات التي تخدمها الدولة الحديثة عصية على التغيير. وكذلك فإن الجمهوريين المؤيدين لـ«حزب الشاي» 6 سيتخلَّون عن حلولهم الوهمية في ثانية إذا ما شعروا أنها ستؤدي إلى خسارة تأمينهم الصحي أو الاجتماعي.
هل يقوم السياسيون المعاصرون، على طرفي الخط الأيديولوجي، بأخذ خطوات حقيقية لجعل الدولة أكثر عدالة وأكثر فعالية؟ محرّرو الإيكونمست يجدون بعض الأبطال الديمقراطيين، هؤلاء في معظمهم عُمدات مدن كبيرة نجحوا في حكم مدنهم بطرق أكثر فعالية، لكن على العموم، يرسم الكاتبان صورة قاتمة لحكم ديمقراطي عاجز على الصعيد الوطني. عندما يربح المحافظون، تسيطر مصالح الشركات الكبرى، أما عندما يربح التقدميون فهم لا يسهمون إلا في جعل الدولة أضخم وأكثر حضوراً. ومن ثم يأتي المحافظون فيقلّلون الأنفاق، وهكذا… هناك تجاذب سياسي يترك الدولة دون إصلاح حقيقي. أما الأمر الأسوأ على الأطلاق، فهو أن الطرفين يقولان بضرورة حماية حرية المواطنين، لكن الأمر ينتهي في كلا الحالتين بزيادة في قدرة الدولة على الرقابة والتحكم بالمواطنين.
بعد كل هذا الأذى الذي تتعرض له الدولة نتيجة التراشق السياسي المستمر، تمسي الدولة الليبرالية أقل ليبرالية باضطراد وأقل قدرة على السيطرة على المصالح التي يفترض بها أن تنظمها. أما أنظمة الضرائب والفوائد فتقوم المصالح الفئوية بتشويهها باستمرار، وبشكل يًفقد الدولة قدرتها على إعادة توزيع الدخل بشكل أعدل. لذا، بدلاً من معالجة التفاوت الاقتصادي والاجتماعي، تًسهم الدولة في تفاقمه. وكما يلاحظ الكاتبان: «إذا وضعنا الضرائب والإنفاق الحكومي معاً، بما في ذلك كل الحسومات الخاصة، فإن الحكومة تنفق من الدولارات على الخمس الأعلى من أصحاب الدخل أكثر مما تنفق على الخمس الأدنى».
لذا، وبالرغم من نقدهم للدولة-الوحش، فإن الكاتبين لا يرحمان أيضاً الأوهام الحرياتية 7 الطامحة لتفكيك الدولة. الدولة الحديثة هي إنجاز الغرب التاريخي. الصين الإمبراطورية كان لديها دولة-وحش أيضاً، لكن تلك خلقت نظاماً خنق روح الإبداع. الدولة الغربية كانت فريدة من نوعها، لأنها قدمت نظاماً قائماً على احتكار العنف من دون خنق الحريات الفردية. النجاح الغربي الأهم، النجاح الذي جعل كل نجاح آخر ممكناً، كان الحُكم المضبوط بالحقوق الفردية، والذي ضُبطت فيه السلطة عن طريق نظام قضائي مستقل وصحافة حرّة وبرلمان وحكم قانون.
في سعيهم لإعادة إحياء الدولة الليبرالية، يشجّع محررو الإيكونمست الديمقراطيات الغربية على التعلم من منافسيها السلطويين. يُهرعون الى سنغافورة لتعلم كيف قام شعب لين كوان يو بإنقاص الاستحقاقات العامة وتخفيض الضرائب، دون أن يهبط الفقراء تحت خطوط شبكة الأمان الإجتماعية. وبدلاً من الذهاب إلى مدرسة كينيدي للسياسة العامة في جامعة هارفارد، أو المدرسة الوطنية للإدارة (إينا) في فرنسا، طاروا إلى الأكاديمية الصينية للقيادة التنفيذية في بادونغ لتعلم كيف قام ’الحزب الشيوعي‘ بتعديل التقاليد الإدارية الإمبراطورية ليخلق بيروقراطية فعالة وقائمة على الكفاءة.
لكن حقيقة أن سنغافورة وشنغهاي يتمتعان بنظام حكم وإدارة أفضل من ديترويت أو لوس أنجلس ليست بالخبر الجديد. السؤال هو إذا ما كانت أنظمة الحكم السلطوية قادرة على الإستمرار في مواجهة المطالب المتزايدة لأبناء الطبقة الوسطى كي يتم التعامل معهم كمواطنين، وإذا ما كانت أنظمة الحكم تلك قادرة على التعامل مع الآثار الجذرية للتباطؤ الاقتصادي المديد والمتوقع الآن في الصين.
البرزخ السلطوي متعجرف لكنه جامد وسهل الكسر: عليه السيطرة على كل شيء، وإلا لا يستطيع السيطرة على شيء. ما يشفع للديمقراطية هو قدرتها على التكيف، فهي تعتمد في حيويتها على عدم الرضى أساساً. عدم الرضى يؤدي إلى تغيير سلمي في الحكم، ومع هذا التغيير تستطيع المجتمعات الحرّة التخلّي عن خياراتها الفاشلة.
قدرة الديمقراطية على التكيف ستُمتحَن، في الهند خصوصاً، حيث أعطى الشعب ناندرا مودي تفويضاً شعبياً كبيراً ليُصلح الدولة الغاندية الفاسدة. على المحكّ هنا قدرة الديمقراطية على التنافس مع نظام العصرنة السلطوي في الصين. هناك أيضاً لدى شي تشنبينغ حملة لمحاربة الفساد ومحاولة للتخفيف من سيطرة الدولة على الاقتصاد. من سيحقق نجاحاً أكبر، هو أم الهندي مودي؟
يقاوم ميكلثويت وولدريدج البريق الجذاب لأنظمة العصرنة السلطوية، لكنهم، كما ليبراليي السوق الحرّ الذين أسسوا مجلة الإيكونمست في أربعينات القرن التاسع عشر 8 ، يدعوان إلى ثورة رابعة تعيد الدولة إلى نظام الحكم المحدود الذي كان سائداً في العصر الفيكتوري. يريدان من الديمقراطيات أن تبسّط أنظمتها الضريبية، وأن تقضي على الثغرات، وأن تخفض العبء الضريبي بشكل عام. على هذه الديمقراطيات أيضاً أن تعزّز من قدرة شبكات التضامن العائلية والخيرية، بحيث يكون الاعتماد على دولة الرفاه أقل مع الوقت. يريدان تحرير السوق من التنظيم الأبوي والمزعج الذي يتدخل في عمله التدميري المبدع. لكنهما في الوقت نفسه يريدان تنظيم الرأسمالية بحيث تبقى سلطة المال تحت السيطرة. التفاصيل مبهمة لكن التوجه واضح.
البطل-النموذج هنا هو ويليام إيورات غلادستون –رئيس وزراء بريطانيا الليبرالي لأربع مرات 9 – الذي استطاع عن طريق توفير «أعقاب الشموع وقطع الجبن» تخفيض الضرائب وتحفيز الاقتصاد على النمو السريع. ليبرالية «الحكومة الرشيقة» الخاصة بغلادستون كانت عبارة عن شراكة –خصامية لكن منتجة– بين القطاع الخاص والدولة المُصلِحة. القطاع الخاص قام ببناء كاتدرائيات الحياة الفيكتورية –أي محطات القطارات– في حين قدّمت الدولة نظاماً قائماً على الإصلاح المتقشف: أي إصلاحات صحية لتحسين أوضاع الطبقة العاملة، وإصلاحات انتخابية لإدخال تلك الطبقة في العملية السياسية، ونظام شرطة للحفاظ على الأمن.
ربما من الصعب ألا نعجب بتوفير غلادستون، بمحبته للإبداع والإصلاح، وبإيمانه النبيل بالتعاون الدولي. لكن من غير الواضح أيضاً ما إذا كان نظام غلادستون يقدم أية أجوبة ذات أهمية للدولة الحديثة اليوم. فعلى تلك الدولة التزامات تتعلق بالـتأمين الصحي وضمان البطالة وضمانات التقاعد، مما لم يكن غلادستون قادراً على تخيله، أو حتى تبنيه. كما أنه لم يواجه مشكلات حقيقة مزمنة كالتغيير المناخي.
في الحقيقة، من غير الواضح في الأساس أن «الابتكار في الحكم» وهو الكنز الذي يذهب ميكلثويت وولدريدج بحثاً عنه في ثلاث قارّات، ويتابعان من أجله الحكومات وهي تعمل في شيكاغو وساكرمنتو وسنغافورة وستوكهولم، من غير الواضح إذا كان هذا الابتكار سينجح في تحقيق الثورة المنشودة أساساً. ليست مشكلة الدولة الليبرالية أنها فاقدة لتقنيات الإدارة الحديثة أو لأنظمة تشغيل جيدة أو لخطط عديدة لتحسين «التفاعل» بين اليبروقراطيين والعموم. عبر تركيزهما على «الإبداع في الحكم»، يبدو ميكلثويت وولدريدج وكأنهما يفترضان أن المشكلة تكمن في فعالية الحكومات. لكن المطلوب في الحقيقة شيء أكثر جذريةً وأكثر تقليدية في الوقت عينه: إن المطلوب هو العودة الى الديمقراطية الدستورية، إلى المحاكم والأجهزة الناظمة المتحررة من سيطرة المال وتأثيرات أصحاب النفوذ، إلى برلمانات تتوقف عن كونها سيركات وتعود لتحاسب الأجسام التنفيذية أمام العموم وتتعاون معها في الوقت عينه على الإجراءات المتمتعة بتأييد شعبي عالٍ، إلى انتخاب حكام يفهمون أنهم قادة لا نجوم تسلية.
يريد محرّرا مجلة الإيكونمست أن يضعا الدولة الليبرالية على نظام حِمية تجويعي. تشخيصهما يكشف عوارض المشكلة، لكن حلولهما، فيما إذا اتُبعت كسياسة، قد تقتل المريض. المشكلة بحاجة إلى فهم مختلف. قد تكون الدولة أكبر من اللازم في بعض النواحي، كما في حالة الجيش الأميركي، لأن التزامات تاريخية لم تجرِ إعادة معاينتها في ضوء متطلبات استراتيجية جديدة، أو، كما في بلاد أخرى، لأن اتحادات القطاع العام القوية ما تزال تستحوذ على ميزانيات اليد العاملة، أو كما في أخرى، لأن أجساماً منتخبة جشعة ما تزال تحول جزءاً من المداخيل إلى جيوبها. لكن في نفس الوقت، هناك دول ليبرالية أخرى تعاني فيها حكومات نزيهة وجيدة الإدارة من نقص في الأموال لتقدم للمواطنين خدمات مهمة وضرورية.
لا يقدم محررا الايكونمست لنا أي تحليل حقيقي لمشكلة الموارد في الدولة الحديثة – أي الأزمة المالية التي تواجهها الدولة في وجه مطالب خدماتية متزايدة وعوائد ثابتة أو هابطة. تحليل سجالي ولكن مقنع لهذه المشكلة يقدمه الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل جوزف ستيغليتز، في ورقة له صادرة عن معهد روزفلت 10 . ستغليتز يطرح مقولة أن أزمة الدولة الليبرالية المالية ناتجة بشكل أساسي عن ثلاث ظواهر مترابطة: 1) عدم مساواة متزايدة في المداخيل، 2) سيطرة للمال على السياسة، 3) تهرب منهجي من الضرائب من قبل فاحشي الثراء والشركات المساهمة العالمية.
كلما تزايد عدم المساواة، يقول ستيغلتز، يتم إخفاء قوى «الطلب» الحقيقي في المجتمع. المجتمعات غير المتكافئة تخزن الثروات في أيادي الأكثر ثراءً بدلاً من توزيع الإنفاق والاستثمار على طبقة وسطى عريضة. لذا، ولأن عدم المساواة يُلجم قوى الطلب، تجلس الشركات الضخمة على أطنان من المال، دون أن تبغي استثمارها او إنفاقها. وكلما بات الأغنياء أكثر ذكاءً في التهرب من الضرائب، تقع كلفة إدارة الدولة الليبرالية على أكتاف الطبقة الوسطى فقط. إنها حالة عدم مساواة تخنق قوى الطلب في المجتمع وتحرم الدولة الليبرالية من الموارد.
علاج ستيغلتز شامل. يقترح ضريبة دخل مقدارها 40٪ على هؤلاء الذين يسيطرون على الـ25٪ الأعلى من المداخيل، تتبعها ضريبة قدرها 20٪ على الربع الثاني من ذوي الدخل الأعلى، ومن ثم تخفيضات ضريبية للنصف الأدنى من أصحاب الداخل. البنية الضريبية تلك تتكفل بمشكلة الدين الوطني. يقترح أيضاً توليفة «من نسب الضرائب ومحفّزات الاستثمار» تُفرض بموجبها ضريبة على عائدات الشركات قدرها 15٪، وضريبة مُضافة على الاستهلاك قدرها 5٪. وأخيراً، يقترح الباحث ضريبة غير محددة على استهلاك الكربون تدفع بالمجتمع الأميركي ليبدع في مجال الطاقة النظيفة ويتبع أسلوب حياة يستهلك نسباً اقل من الكربونات.
البنية الضريبية تلك سترفع نسبة الدولة من الدخل الوطني إلى 26٪. إجراءات كهذه ستحل الأزمة المالية للدولة الليبرالية، وتخفف من عدم المساواة، وتحفز النمو، لأن الدولة ستقوم بإنفاق الثروات المحجوزة حالياُ في حسابات الشركات الضخمة –في الخارج أحياناً– أو في حسابات المدخرات الخاصة.
قد تبدو حلول ستيغلتز للبعض وكأنها «تصادر» أموال الناس، في حين قد تبدو للبعض الآخر وكأنها تحاول، عبر الضرائب، تحقيق ما لا تستطيع وحدها إنجازه، لكن تحليله يعرّف مشكلة الدولة الحديثة بطريقة أوضح من محرري الإيكونمست. بشكل أساسي، الدولة الليبرالية في أزمة لأن أجهزتها الناظمة ومؤسساتها السياسية والقضائية قد جرت السيطرة عليها من قبل المصالح المالية التي كان يفترض بالأجهزة تلك أن تسيطر عليها. لم يكن من مهام الدولة الليبرالية يوماً أن تطبق المساواة التوزيعية، لكن كان يفترض بها دائماً أن تسيطر على قدرة أصحاب الثروة على خنق المنافسة وإفساد النظام السياسي. تلك هي الوظيفة التي تجهد الدولة لأداءها اليوم، والتي يجب أن تستعيدها بشكل كامل إذا كان سيكتب لها أن تستعيد ثقة وتأييد القطاع الواسع من مواطنيها.
هذا التحدي ليس بجديد. عدم التكافؤ في الثروة هدّد مراراً المساواة السياسية التى لا يمكن من دونها أن تعمل أي دولة ليبرالية بشكل عادل. على مرّ الزمن، خلال الفترة التقدمية 11 ، خلال حقبة النيوديل التي قادها الرئيس روزفلت 12 ، ووصولاً إلى صعود دولة الرفاه الأوربية، تجاوب المُدافعون عن الدولة الليبرالية مع التحديات وأعادوا الدولة كضامن للنظام والحرية في مجتمع السوق. أصاب ميكلثويت وولدريدج عندما وجدا أن عبقرية الغرب تكمن في اختراعه لحكومة محدودة تحترم الحقوق وتضمنها ثقة يستطيع المواطنون العاديون حجبها عند اللزوم. تلك هي المؤسسات التي جعلتنا مَن كنا، وما نستطيع أن نكون إن عدنا إلى حيويتنا الدستورية.
هوامش