الاستيلاء على العلم

نشرت في الفورين بوليسي

بقلم سامي المبيض

آب 2012

ماذا يقول علم التمرّد عن الحرب الأهلية في سورية

عميقاً في الأرشيف السوري في دمشق، يستطيع المرء أن يجد صوراً بالأبيض والأسود لموكب عسكري في العاصمة السورية في الذكرى السابعة عشرة لعيد الاستقلال: 17 نيسان عام 1963. وقع هذا الحدث بعد أربعين يوماً فقط من استيلاء حزب البعث على السلطة. كان كبار الضباط السوريين يرتدون لباسهم العسكري مع الزينة الملونة من الميداليات متناثرة على بزاتهم النظامية، وعلى رأسهم مؤسِّسَي نظام البعث: نائب رئيس الأركان صلاح جديد وقائد القوات الجوية حافظ الأسد. يرفرف وراءهم العلم السوري الرسمي: راية يتخللها ثلاثة شرائط؛ أخضر، أبيض وأسود وثلاث نجوم حمراء مرسومة في الوسط.

بعد قرابة نصف قرن، يلوّح بالعلم نفسه أولئك يرغبون بتدمير النظام الذي أسسه الأسد وإزالة حزب البعث الذي يترأسه. ولكن رمز الثورة السورية يتعرض لطمس من قبل مسؤولي النظام الذين يدعون أنه “علم الانتداب الفرنسي” وقد فرض على سورية من عام 1920 حتى 1946. وفقاً للتلفزيون الرسمي، يستخدمه الثوار لاستعادة الهيمنة الغربية على سورية كجزء من المؤامرة القطرية الإسرائيلية السعودية والأمريكية “الكونية” ضد دمشق.

من عام 1932 حتى 1963 (مع انقطاع قصير خلال 1958-1961)، كان علم الثورة هو العلم السوري الرسمي، مما يفسر لماذا لا يزال وقعه يضرب على وتر الحنين عند السوريين المسنين والصراع من أجل العودة إلى ” علم الثورة” يشير إلى هوية السوريين الوطنية المناهضة للنظام وإلى رغبتهم بالانفصال عن كل شيء يذكرهم ب 49 عاما من حكم حزب البعث حتى لو عنى ذلك إسقاط أكبر رمز للدولة السورية على قيد الحياة.

مهاجمة العلم كرمز من رموز الاستعمار ينقصه المصداقية. فبعد كل شيء، لقد تم استخدامه لأعوام من قبل التلفزيون الحكومي السوري في يوم الاستقلال كرمز لنضال سوريا الطويل ضد الانتداب الفرنسي، وليس كرمز للخضوع له. لقد تم إنشاؤه عام 1932 – خلال حقبة أول رئيس مدني منتخب ديمقراطياً لسوريا، محمد علي العابد – من قبل لجنة برلمانية يترأسها المحترم إبراهيم هنانو، واحد من زعماء الثورات المناهضة للفرنسيين خلال العشرينيات من القرن الماضي، والذي خلد اسمه في كتب التاريخ السورية، من قبل البعثيين أنفسهم. أشارت الألوان إلى الحكّام في ماضي سورية – الأبيض للأمويين، الأسود للعباسيين، والأخضر للخلفاء الراشدين.

رُفع العلم على مباني الحكومة من يوم استقلال سورية عن فرنسا عام 1946، وبقى علم سوريا حتى عام 1958، عندما ألغاه الرئيس المصري جمال عبد الناصر بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة. عاد السوريين إلى الأخضر-الأبيض-الأسود إبان حلّ الوحدة عام 1961، وبقي مستخدماً لمدة عام تقريباً بعد استلام البعثيين للسلطة عام 1963.

يشرح هذا التاريخ الطويل لماذا يبقى العلم رمزاً قوياً. فقد تمّ استخدامه من قبل 12 رئيساً، بدءاً من العابد وانتهاءً بـ أمين الحافظ عام 1964 ونجا وبقي مستخدماً خلال 14 عاماً من الاحتلال الفرنسي وفي حرب مع إسرائيل، وستّة انقلابات. لا يستطيع النظام السوري أن يمحيه بسهولة.

هذا التاريخ الطويل والمهم للعلم قد يفسر سبب تأخر المسؤولين السوريين, الذين تفاجئوا بالتحدي الذي يفرضه حمل العلم الجديد, عن الردّ حيال هذا الرمز الجديد. بعد فترة من التلكئ والضياع حول كيفية تناول معضلة العلم, قام الناطقون بلسان النظام والمؤيدون له بحملة منظمة لتلويث سمعة العلم القديم, قائلين أنه “صنيعة المفوض السامي الذي فرضه عام 1932 رغما عن أنف السوريين.” هذه القصة, بالطبع, عارية عن الصحة ولا أساس لها, فلم يتمكن مدعوها بإثبات ادعائهم. كما أنهم فشلوا في تفسير سبب احتفاظ السوريين بعلم “المفوض السامي” بعد انهاء الإنتداب الفرنسي, لو صحّ ادعاؤهم.

خلق الإعلاميون قصة مبتكرة من وحي خيالهم عن النجمات الثلاث التي تتوسط العلم القديم قائلين أنها ترمز للدويلات الطائفية الثلاث التي تشكلت خلال فترة الانتداب: دولة العلويين, دولة الدروز, ودولة السنة (على الرغم من أن سوريا لم تشهد على مدار تاريخها مثل هذا التقسيم). ينبح هؤلاء على شاشات التلفاء قائلين: “من يحمل علم الانتداب يريد تقسيم البلاد إلى دويلات طائفية”. في الحقيقة ترمز هذه النجوم الثلاث إلى ثلاث تمردات حصلت ضد الانتداب. الأول قام به العلويون, الآخر الدروز والأخير في شمال سوريا تحت قيادة هنانو. هي في الحقيقة رموز للوحدة وليست رموزا للتحزب
إلى جانب حملة تشويه صورة العلم القديم, حاول النظام السوري زيادة الالتفاف الشعبي حول العلم الحالي. تم تصنيع أعداد لا حصر لها من الأعلام الحمرار البيضاء والسوداء لتحمل في مسيرات التأييد في دمشق التي وصل فيها مؤيدوا الأسد لدرجة وضع صورته بين النجمتين الخضراوين. في الوقت ذاته قامت الدولة بتمويل حملة لحمل أطول علم في العالم على طول امتداد أتوستراد المزة الذي يخترق المدينة لقلبها.
دفع ثمن سنوات من حكم حزب البعث

تذمر المسؤولون السوريون. كيف يمكن للناس التخلي عن علمهم بهذه السهولة؟ برغم كل شئ, لم تتحدى الثورة التونسية أو المصرية شرعية أعلامها الراهنة. حتى اللبنانيون, بعد سنوات طويلة من الحرب الأهلية, لم يفكروا حتى باستبدال علمهم. علم شجرة الأرز استمر ليمثل كل فصيل في المجتمع اللبناني المعقد, الذي يشمل المارونيين الوطنيين إلى الشيعة المسلمين. لماذا كانت سوريا مختلفة؟

تكمن الإحابة بالطبع في ممارسات النظام السوري الخاطئة. حتى عام 2003, لم يقم النظام بخلق شعور بالإنتماء للعلم السوري. منذ فترة سبقت الثورة بكثير, كان المسؤولون السوريون مهتمين دوما بتسويق علم حزب البعث وصورة الرئيس, أكثر من تسويق رموز الدولة السوري. علم الحزب المطابق لعلم فلسطين هو نسخة من راية العرب في ثورتهم على الامبراطورية العثمانية عام 1916. له نفس ألوان العلم السوري القديم وتصميم يشبهه ثلاث خطوط عريضة بالألوان الأخضر, الأسود والأبيض بالإضافة لمثلث أحمر في جانبه الأيسر. السوريون الذين كبروا خلال الثمانينيات كانوا يواجهون صعوبة في تحديد علم سوريا الرسمي. لأن علم البعث بالإضافة لصورة حافظ الأسد كانت دائما ترفع على ارتفاع أعلى من علم سوريا في مرافق الدولة ومكاتب الحكومة. حتى أن علم سوريا كان في أغلب الأحيان في حال يرثى لها مقطعا, مغبرا بسبب الإهمال المستمر.

والنتيجة؟ جيلا بعد جيل وصل السوريون لسن الرشد حاملين تعلقا بسيطا لعلم سوريا. الاحترام لرموز الدولة فرض عليهم فرضا بدل أن يتطور مع نضوجهم مرفقا بالشرح, المشارعر والانسانية. شعر الناس أن العلم لا يعني الكثير للمسؤولين السوريين “الذين كانوا ملتزمين ببعثييتهم أكثر من التزامهم “بسوريتهم. الأمر نفسه ينطبق على نشيد حزب البعث, التي كانت تصدح في المسيرات إلى جانب النشيد الوطني, وأحيانا بدلا منه. خلال هذه المراسم في المدارس الرسمية, فقد النشيد الوطني معناه وكذلك خسر العلم روحه.

مع وصول بشار الأسد للحكم عام 2000, بدأ الأمر بالتغير بنصيحة من الأتراك, كما تقول مصادر مضطلعة.  ركز الأتراك على أهمية علم تركيا بعد وصول رجب طيب أردوغان إلى سدة الحكم في تركيا عام 2003. عائلة أردوغاد كانت تؤمن أن العلم له القدرة على توحيد كل الأتراك وعلى ردم الهوة بين ماضي تركيا العثماني وحاضرها العلماني. بعد عام 2003, بشكل مشابه, بدأ علم سوريا بانتزاع الصدارة من علم البعث. أخذ والنظام الفكرة وحاول تطبيقها لأقسى حد, وأخد يستخدم العلم السوري في كل مناسبة لا بل قام بتصنيع ألبسة, ساعات, سوارات وقبعات تحمل العلم السوري. أصبح العلم معيارا آخرا لقياس درجة الولاء للنظام, للدولة وللرئيس.

عندما انطلقت المظاهرات في آذار 2011, استخدم المسؤولون السوريون العلم السوري في أي محاولة لإيجاد رمز يلتف حوله السوريون. لكن الأمر كان متأخرا جدا. ظهر العلمان كلاهما في سوريا, أحدهما في الشارع المؤيد للنظاك, والآخر في الشارع المعارض. وخلال وقت قصير أصبح للبلد جيشان, يحمل كل منهما راية مختلفة. امتهان النظام للعلم بين عامي 2003 و2010 جعل من الصعب اعتباره قوة جامعة في الـ 2011. أراد السوريون رمزا جديدا, وجدوه في علم الاستقلال.

العلم ذوالخط الأحمر لن يبقى علم النظام, أيضا العلم ذو الخط الأخضر هو علم الانتداب. هاتان مقولتان تحتاجا لإعادة النظر بشكل هادئ وجاد من قبل نظام سوريا القادم الذي سيضم شخصيات من النظام الحالي لم تتلوث يديهم بالدماء في الأشهر الـ 16 الماضية. البعض يريد الاحتفاظ بالعلم الحالي كما حصل في مصر, بينما سيدفع الآخرون نحو تغيير العلم بشكل مشابه لما حصل في ليبيا. استفتاء شعبي سيكون أمرا حاسما في المستقبل.

في خضم الضوضاء في سوريا اليوم, لا تبدو ألوان العلم من المسائل الملحة. لكن هذه المعضلة ترفع مسألة مهمة في سوريا المستقبل. كيف يربط السوريون أنفسهم كمواطنين في دولة لكل السوريين. ببساطة لا يمكن لهم أن يستمروا في الحكم على وطنية الآخر حسب ألوان العلم الذي يحملوه. لا يمكن محو أي من العلمين من ماضي سوريا. الملايين مازالوا يعتبرون العلم الحالي علم سوريا بغض النظر عن موقفهم من النظام. أيضا ليس كل من يعارض الأسد مرتاح لعلم الثورة. وعلى كل هؤلاء أن يعملوا معا لبناء سوريا جديدة.

هذا التاريخ الطويل والمهم للعلم قد يفسر سبب تأخر المسؤولين السوريين, الذين تفاجئوا بالتحدي الذي يفرضه حمل العلم الجديد, عن الردّ حيال هذا الرمز الجديد. بعد فترة من التلكئ والضياع حول كيفية تناول معضلة العلم, قام الناطقون بلسان النظام والمؤيدون له بحملة منظمة لتلويث سمعة العلم القديم, قائلين أنه “صنيعة المفوض السامي الذي فرضه عام 1932 رغما عن أنف السوريين.” هذه القصة, بالطبع, عارية عن الصحة ولا أساس لها, فلم يتمكن مدعوها بإثبات ادعائهم. كما أنهم فشلوا في تفسير سبب احتفاظ السوريين بعلم “المفوض السامي” بعد انهاء الإنتداب الفرنسي, لو صحّ ادعاؤهم.

خلق الإعلاميون قصة مبتكرة من وحي خيالهم عن النجمات الثلاث التي تتوسط العلم القديم قائلين أنها ترمز للدويلات الطائفية الثلاث التي تشكلت خلال فترة الانتداب: دولة العلويين, دولة الدروز, ودولة السنة (على الرغم من أن سوريا لم تشهد على مدار تاريخها مثل هذا التقسيم). ينبح هؤلاء على شاشات التلفاء قائلين: “من يحمل علم الانتداب يريد تقسيم البلاد إلى دويلات طائفية”. في الحقيقة ترمز هذه النجوم الثلاث إلى ثلاث تمردات حصلت ضد الانتداب. الأول قام به العلويون, الآخر الدروز والأخير في شمال سوريا تحت قيادة هنانو. هي في الحقيقة رموز للوحدة وليست رموزا للتحزب

إلى جانب حملة تشويه صورة العلم القديم, حاول النظام السوري زيادة الالتفاف الشعبي حول العلم الحالي. تم تصنيع أعداد لا حصر لها من الأعلام الحمرار البيضاء والسوداء لتحمل في مسيرات التأييد في دمشق التي وصل فيها مؤيدوا الأسد لدرجة وضع صورته بين النجمتين الخضراوين. في الوقت ذاته قامت الدولة بتمويل حملة لحمل أطول علم في العالم على طول امتداد أتوستراد المزة الذي يخترق المدينة لقلبها.

Source: Foreign Policy

Capture the Flag

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s