هنري كيسنجر
وزير الخارجية الأمريكي من العام 1973-1977
واشنطن بوست – 2 يونيو/حزيران 2012
تجري النقاشات حول الربيع العربي عامةً في سياق آفاق الديمقراطية التي سيحققها، ومما يساوي ذلك في الأهمية تلك المناشدات المتزايدة مؤخراً في سوريا لجهة تدخل عسكري خارجي بغية تغيير النظام الحاكم، قالباً معه المفاهيم المتعارف عليها في النظام الدولي.
لقد نشأ المفهوم الحديث للنظام العالمي في العام 1648 بموجب معاهدة ويستفاليا Treaty of Westphalia التي وضعت حداً لحرب دامت ثلاثين عاماً. في ذلك الصراع، أرسلت الأسر الحاكمة المتتنافسة فيما بينها جيوشها عبر الحدود السياسية بغرض فرض تعاليمها الدينية المتضاربة. إن هذا النوع من آليات تغيير الأنظمة الذي يعود إلى القرن السابع عشر أدى ربما إلى مقتل ثلث سكان أوروبا الوسطى.
ولتجنب تكرار حمام الدماء هذا، فصَلت معاهدة ويستفاليا ما بين السياسات الدولية والسياسات المحلية. فالدول القائمة على مؤسسات وطنية وثقافية كانت تعتبر دولا ذات سيادة داخل حدودها، فيما انحصرت تاثيرات السياسات الدولية ضمن الحدود المتفق عليها. بالنسبة لأولئك المؤسسين، فإن المفاهيم الحديثة للمصالح الوطنية وتوازن القوى لم يكتب لها التوسّع بقدر ما حكمتها قيود فرضتها القوة، فأحلّت تلك المفاهيم مسألة الحفاظ على التوازن مكان تحوّلات الشعوب القسرية.
لقد انتشر النظام المذصوص عنه في معاهدة ويستفاليا Westphalia حول العالم بواسطة الدبلوماسية الأوروبية. وعلى الرغم مما عانته سيادة الدول الوطنية من توترات جراء خوضها حربين عالميتين، وبروز الشيوعية الدولية، إلا أنها تمكنت من الحفاظ على وجودها، على أقل تقدير كحجر أساس لقيام نظام دولي.
لم يحدث أن جرى تطبيّق النظام الويستفالي Westphalian كاملا في منطقة الشرق الأوسط أبدا. فثلاثة فقط من دول المنطقة المسلمة امتلكت القاعدة التاريخية لهذا النظام، وهي تركيا ومصر وإيران. أما الدول الأخرى فقد عكست حدودها حالة تقاسم غنائم الدولة العثمانية المدحورة بين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، وفق الحد الأدنى من اعتبارات الانقسام العرقي أو الطائفي. ولطالما تعرضت هذه الحدود منذ ذلك الحين للتنازع المتكرر عليها ولا سيما العسكري منها في أحيان كثيرة.
تستبدل الدبلوماسية التي أفرزها الربيع العربي مبادئ نظام ويستفالياWestphalia المتعلقة بالتوازن بمذهب آخر معمّم من التدخل الإنساني. وفي هذا السياق، يُنظر دُولياً إلى الصراعات الأهلية عبر موشورات من مخاوفَ ديمقراطية أو طائفية. تطالب القوى الخارجية الحكومة القائمة بالتفاوض مع خصومها لتقل السلطة. لكن نظراً لكونها مسألة حياة أو موت لكلا الجانبين عموماً، فإن مثل هذه النداءات لا تجد في العادة آذاناً صاغية. وحيثما يكون الطرفان على درجة متقاربة من القوة، فإن مستوىً من التدخل الخارجي يجري استدعاؤه لكسر الجمود الحاصل، بما في ذلك استدعاء القوة العسكرية.
إن هذا الشكل من أشكال التدخل الإنساني يميّز نفسه عن السياسة الخارجية التقليدية من خلال تجنب مناشدات المصلحة الوطنية أو توازنات القوى – المرفوضة لافتقارها للبعد الأخلاقي. فهو يبرر نفسه ليس عن طريق التغلب على تهديد استراتيجي وإنما بإزالة الظروف التي يُنظر إليها على أنها انتهاك للمبادئ العالمية لإدارة الحكم.
وفي حال اعتماده كمبدأ من مبادئ السياسة الخارجية، فإن هذا الشكل من أشكال التدخل يثير تساؤلات أوسع نطاقا فيما يختص باستراتيجية الولايات المتحدة. هل تعتبر أمريكا نفسها ملزمة بدعم كل انتفاضة شعبية ضد أي حكومة لاديمقراطية، بما فيها تلك التي تعتبر وحتى هذه اللحظة مهمة للحفاظ على النظام الدولي؟ هل تكون المملكة العربية السعودية،على سبيل المثال، حليفا فقط لحين اندلاع مظاهرات شعبية على أراضيها؟ هل نحن مستعدون للتنازل لدول أخرى عن حقنا في التدخل في مكان آخر لأسباب دينية أوعرقية؟
في الوقت نفسه، فالضرورات الاستراتيجية التقليدية لم تزل. إن تغيير النظام، بحسب تعريفه الأقرب، يفرز ضرورةً حتمية لبناء الدولة. فإذا تعذّر ذلك، بدأ النظام الدولي نفسه في التفكك. وبذلك قد تهيمن مساحات فارغة على الخريطة في دلالةً على انعدام القانون، كما حدث بالفعل في اليمن والصومال وشمال مالي وليبيا وشمال غربي باكستان، وحتى كما يمكن أن يحدث الآن في سوريا. فانهيار الدولة قد يحوّل أراضيها إلى قاعدة للإرهاب أو ساحة لتوريد السلاح ضد جيرانها الذين، في ظل غياب أي سلطة مركزية، لن يمتلكوا أية وسيلة للتصدي لهم.
في سوريا، ثمة دعوات لتدخل إنساني واستراتيجي مشترك. في قلب العالم الإسلامي، قامت سوريا تحت حكم بشار الأسد بتقديم العون لاستراتيجية إيران في المشرق العربي ومنطقة البحر الأبيض المتوسط. كما وفّرت الدعم لحركة حماس التي ترفض الاعتراف بدولة إسرائيل، هذا فضلا عن دعمها لحزب الله المتسبب في تقويض وحدة لبنان وتماسكه. إن لدى الولايات المتحدة الأمريكية أسبابها الاستراتيجية والإنسانية أيضا لتأييد إسقاط الأسد، وتشجيع الجهود الدبلوماسية الدولية لتحقيق هذه الغاية.
لكن من ناحية أخرى، لا ترقى كل مصلحة استراتيجية لكي تكون سبباً كافياً لشن حرب ما، بل على العكس من ذلك، سوف لن تتبقى هناك مساحة لأي حل دبلوماسي.
ومع أخذ القوة العسكرية بالحسبان، هنالك العديد من المسائل الكامنة التي يجب التصدي لها: فبينما تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتسريع وتيرة انسحابها من تدخلها العسكري في كل من العراق المجاور لسوريا وأفغانستان، كيف يمكن لالتزام عسكري جديد في نفس المنطقة أن يكون مبرراً، خاصة أنه سيواجه على الأرجح التحديات نفسها؟ وهل يمكن لهذا النهج الجديد – الأقل انكشافا من الناحيتين الاستراتيجية والعسكرية، والأكثر جنوحاً نحو الدبلوماسية والاعتبارات الأخلاقية – أن يحل المعضلات التي عرقلت جهودها السابقة في العراق أو أفغانستان، والتي انتهت بانسحابها من هناك فضلا عن التسبب بحالة من الانقسام داخل الولايات المتحدة؟ أم هل سيفاقم ذلك من صعوبة المخاطرة بسمعة الولايات المتحدة ومعنوياتها فيما يخص نتائج الداخل المحلي والتي لا تمتلك الولايات المتحدة أصلا لتشكيلها سوى بضع وسائل واستطاعة أقل؟ من سيحل محل القيادة التي سيتم الإطاحة بها، وماذا نعرف عنها؟ وهل سيسهم البديل في تحسين الظروف الإنسانية والحالة الأمنية؟ أم أننا نجازف بتكرار تجربة طالبان، التي جرى تسليحها من قبل الولايات المتحدة لتحارب المحتل السوفييتي، لكنها تحوّلت بعد ذلك لتصبح تحدياً أمنياً بالنسبة لنا؟
إن وجه الاختلاف بين التدخل الاستراتيجي والإنساني يصبح أمراً ذات صلة. فالمجتمع الدولي يحدد التدخل الإنساني بتوافق الآراء، الذي يصعب جداً تحقيقه إلى درجة أنه يحد من الجهود المبذولة.
من ناحية أخرى، فالتدخل الأحادي الجانب أو القائم على تحالف الدول الراغبة يثير مقاومة الدول المتخوفة من تطبيق هذه السياسة على أراضيها (مثل الصين وروسيا). وبالتالي، فإنه من الصعب أكثر الحصول على دعم محلي لذلك. إن مبدأ التدخل الإنساني عرضة لخطر أن يصبح معلقاً ما بين ثوابتها والمقدرة على تنفيدها؛ لكن التدخل الأحادي الجانب، على النقيض من ذلك، يتأتى على حساب الدعم المحلي والدولي.
إن التدخل العسكري، سواء أكان إنسانيا أو استراتيجيا، يتطلب تحقق شرطين مسبقين:
الشرط الأول: يعتبر الإجماع على شكل الحكم بعد الإطاحة بالنظام الحالي ضرورة ملحة. فإذا كان الهدف محصوراً بالإطاحة بحاكم معيّن، فإن ذلك قد يؤدي إلى اندلاع حرب أهلية سببها الفراغ الناتج، حيث ستتنافس المجموعات المسلحة على الاستحواذ بخلافة الحاكم، فيما الدول الخارجية توفّر دعمها لأطراف مختلفة.
الشرط الثاني هو وجوب أن يكون الهدف السياسي واضحاً وقابلاً للتنفيذ خلال فترة زمنية مستدامة محلياً. وأشك بأن تتوفر هذه الشروط في الوضع السوري. كما أنه لا يسعنا أن ننساق من سياسة إلى أخرى تفضي إلى تورط عسكري غير محدد في صراع ينحو بشكل متزايد ليتحول إلى صراع طائفي، ففي معرض تجاوبنا مع مأساة إنسانية، يجب علينا توخي الحذر حتى لا نسهم في خلق مأساة أخرى.
في ظل غياب مفهوم استراتيجي واضح المعالم، فإن النظام العالمي الذي يلغي الحدود ويسهم في دمج الحروب الأهلية والدولية لا يمكن له أبدا أن يلتقط أنفاسه، فهو يحتاج إلى تحسس ذلك الخيط الرفيع لكي يتمكن من رسم تصوّره حول إعلان الثوابت المطلقة. إنها مسألة حيادية، ويجب أن يتم التعامل معها وفقاً لذلك الأسلوب وسط الجدل الوطني الذي نحن داخلون فيه.
المصدر
الدول تحكمها المصالح ويحركها البترول .
كلنا سورية حرة بدون بشار و شركاه