السفير مارك جينسبرغ Marc Ginsberg – سفير الولايات المتحدة السابق لدى المغرب
28 مارس/ آذار 2012
بعد إعلان البوسنة استقلالها عام 1992، حاصرت القوات الصربية العاصمة البوسنية سراييفو Sarajevo. وعلى مدار نحو 4 سنوات من العنف الموجّه ضد المدينة، نأت واشنطن بنفسها جانباً وعلى مضض، فيما أنزل الصرب صنوفاً لا توصف من الأذى والفظائع بسراييفو. لقد كان من شأن عجز الحكومة الأمريكية، ذلك الذي تمّ توثيقه جيداً، أن طوّق كل أملٍ في اعتماد إستراتيجية جديدة إلى حين جرى وبدم بارد إعدام 7000 مسلم على أيدي قوات صرب البوسنة في مخيّم اللاجئين في سربرنيتشا Srebrenica ، وذلك في شهر يوليو/ تموز من سنة 1995. لقد تطلّب الأمر ارتكاب قدرٍ من الوحشية يعجز اللسان عن وصفها تسببت في نهاية المطاف بصدمة للبيت الأبيض دفعته للخروج من العزلة التي فرضها على نفسه، ومواجهة الحقائق الدالّة على أن سياسته المتّبعة في البوسنة لم تكن جديرة بالذكر.
بالرجوع 17 عاماً؛ وفي السنة الثانية من حمّام الدم السوري فيما سمّي بالربيع العربي تبدو الأحداث بالنسبة للبيت الأبيض وكأنها ومضة من الماضي تعود إلى الظهور. رغم أن سوريا ليست سربرنيتشا، إلا أن ثمة تشابه غريب في الشكل الذي يبدو فريق أوباما عالقاً فيه، وعلى نحو متعذّر في فراغ سياسة شبيهة بتلك التي انتهجها حيال البوسنة عام 1995، فيما يستبّد به جهاز حملةٍ انتخابية دأب على اختلاق اعتبارات الأمن القومي. وتلك وصفة خطيرة حيث اقترنت بغياب أية إستراتيجية طويلة الأمد في سوريا.
لماذا يقف البيت الأبيض فوق منحدر زلق كهذا ثم يدّعي أنه عازم على تجنبه؟
أولاً، حينما اندلعت طلائع أعمال العنف في سوريا في آذار 2011، اُعتبرت الإدارة المتورطة حديثاً في الشأن الليبي أن سوريا تمثّل نقطة الضعف في السياسة الخارجية. “سوريا ليست ليبيا”، عبارة استحالت عنواناً للنبرة الوقائية السائدة اليوم، ورانَ صمت مثير للصدمة على جميع شخصيات الإدارة ممن صرخوا داعين إلى التدخل الإنساني في ليبيا، حتى عندما تجاوز العنف العصيّ على الوصف في سوريا والذي حدث سابقاً في ليبيا. على عكس الأخيرة، كانت سوريا حملاً أثقل من اللازم على كاهل الإدارة التي شهدت تضعضع العديدِ من سياساتها في الشرق الأوسط بفعل أحداث بدت وكأنها تقطع دوماً الطريق على بوادر حسن النية.
الإدانات العرضية من قبل الإدارة، على لسان الرئيس أو وزيرة الخارجية، عن قسوة الأسد الصادمة لم تدعَّم بعقوبات لاذعة أو جهود كافية من أجل حشد ضغط دولي ضد الأسد. في المقابل ردّ الأسد وجماعته ببراعة عبر تقديم وعودٍ فارغة بالإصلاح كغطاء من أجل تصعيد حملة القمع.
ثانياً، بعد مرور شهرين على الثورة الممتدة، وفي ظل تصاعد الخسائر بين صفوف المدنيين، سقط البيت الأبيض في فخ سياسي حينما طالب الأسد إما أن يشرُع في الإصلاح أو أن “يرحل”. لم يكن في نية الأسد القيام بأيٍ من هذا، لكن فريق أوباما ظل بالرغم من ذلك يقدم للـ”الشيطان الذي يعرفه”رفاهية الاختيار.
قرأ الأسد ما وراء تلك الإشارات أفضل قراءة ممكنة، وفسّر “الشيطان الذي نعرفه” طرحنا المعلن عن “الخيار”، بأنه تصريح بتصعيد العنف ضد المدنيين في سوريا، مدركاً أن واشنطن لجمت نفسها عن أي تدخل ملموس ضد نظامه.
ثالثاً، الإدارة مكبّلة بمخاوف لا أساس لها من حيث أن الانفجار الداخلي السريع للنظام قد يقود إلى مرحلة طويلة من الصراع الطائفي وعودة ظهور جماعة الإخوان المسلمون. لقد أخفقتْ في إدراك أنه كلما تنامت وحشية النظام كلما اشتدت مرارة الرغبة في الانتقام. اليوم، ربما ما يحصل هو العكس – ثمة خوف حقيقي في حال استمرت الأعمال الوحشية من أن تتزايد فرص المتطرفين في الاستيلاء على السلطة من السوريين الأكثر اعتدالاً – وليس العكس. أما خبراء الخارج الذين جاهدوا لطرح مثل هذا التقييم فلم يلقوا آذاناً صاغية.
ثم في شهر مايو/ أيار، طالب أوباما الأسد مرة أخرى “بقيادة عملية انتقال سياسي أو التنحي”… في أثناء ذلك ارتفع عدد الضحايا إلى 1600 قتيل. لكن أياً من تلك المطالب لم تقترن بتحذير صارم بما فيه الكفاية: لم تُبذل مساعٍ للحد من عائدات النفط الحيوية بالنسبة لسوريا، كما لم يحدث استهداف دقيق لرجال الأعمال ممن يوفّرون الدعم للنظام، ولم تبذل جهود كافية لبدء عمليات الإغاثة الإنسانية للمدنيين في سوريا. لم تبذل كذلك أية جهود لإسقاط الشرعية عن النظام عبر إحالة قياداته إلى المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي حشد نهج أكبر متعدد الأطراف تمهيداً لإجبار الأسد على الاختيار بين خيارين لا ثالث لهما.
في غضون ذلك، أُغرق البيت الأبيض بسيل من التوصيات السياسية المعتدلة من طرف خبراء معروفين على الصعيد الوطني ومتخصصين في الشأن السوري تشير إلى وجود العديد من العقوبات الجديدة والسياسات التي كان من الممكن للولايات المتحدة أن تتبناها طوال فصلي الصيف والخريف ودون الحاجة إلى تدخل عسكري مباشر بهدف زيادة الضغط على الأسد، متضمنة عقوبات على مصرف سوريا المركزي، وأخرى على المصارف اللبنانية المنهمكة في غسيل أموال العائدات النفطية للأسد، والتوعية الهادئة لأقليات سوريا بغية استمالتهم بعيداً عن النظام أو تقديم الدعم السياسي للمعارضة السورية. كل ذلك مجرّد غيض من فيض.
رابعاً، وبينما تدفقت تقارير أكثر عن الفظائع المرتكبة في سوريا الصيف الماضي، شرعت الولايات المتحدة في تسويق سياستها لدى تركيا على أمل أن يخلق المزيد من التنسيق مع أنقرة مزيداً من الدعم المتعدد الأطراف في مواجهة النظام. عندها، كان للمسألة دلالة عقلانية بارزة. أخذت أنقرة بزمام القيادة في مواجهتها للأزمة الإنسانية المتنامية للاجئين على حدودها مع سوريا، فضلاً عن غضبها لفشل استثمارها في نظام الأسد. كانت هناك محادثات ثنائية عن مناطق عازلة وممرات إنسانية، وربما عن دعم عسكري غير فتاك للجيش السوري الحر الناشئ.
لكن كما ذكر زميلي المتمكن طوني بدران في مدوّنته على http://www.nowlebanon.com (مؤكداً ما كنت قد فهمته أثناء زيارتي الأخيرة إلى تركيا قبل بضعة أيام)، فقد باغتت وزيرة الخارجية كلينتون نظيرها التركي على حين غرة خلال لقائهما في واشنطن الشهر الماضي. بحسب التقارير، أبلغت كلينتون وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو أن إدارة أوباما “تفضّل العبور بالأزمة من خلال الروس”، في محاولة للتوصل إلى حل سياسي يتم الترويج له من قبل كوفي أنان المبعوث الخاص للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.
بدا لتركيا أن كل ما اعتقدته مطروحاً للنقاش مع الولايات المتحدة قد تبخّر، إثر نبذ هذه الأخيرة وعلى نحو غير متوقع للخطة المشتركة بين تركيا وجامعة الدول العربية والداعية لإنشاء منطقة عازلة أو ممر إنساني، فضلاً عن تنظيم وتوفير الدعم العسكري غير الفتاك للجيش السوري الحر. يبدو أن أحداً في البيت الأبيض لم يكن معنياً بأن هذا الأخير قد ورّط زملاءنا الأتراك بعدما كان متضامناً مع رؤيتهم، مؤيداً لموقفهم.
زاد الطين بلّة بالنسبة للأتراك المندفعين على طريق التوصل إلى مقاربة معقولة للكارثة الإنسانية في سوريا حينما أثنت السيدة كلينتون بشكل غير لائق على قرار مجلس الأمن الدولي الصادر مؤخراً، ملتزمة ببيان الرئيس حول سوريا والمتماشي مع الخطوط العريضة التي كان الروس قد طالبوا بها. لم تكن ثمة مواعيد نهائية، ولا أي تهديد حقيقي حول اتخاذ إجراء ما في حال فَشِل الأسد في تبني خطة أنان، ثم وإرضاءً للروس، لم يرد ذكر مسألة التخلص من الأسد رغم كونها شكّلت حجر الزاوية في سياسة أوباما. كان الأمر من نوعية أفعال الأمم المتحدة الجوفاء ذات الطبيعة الشكلية السطحية . في هذه الأثناء كان الروس يغمرون الأسد بالأسلحة فيكسبون لنظامه مزيداً من الوقت كي يقتل حتى آخر معارض سوري.
أكثر من أي إدارة أمريكية سابقة في الفترة الأخيرة، لعبت مصالح “السياسات” بالنسبة لغرفة العمليات هذه دور الريادة، عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية (مقارنة بالأمن القومي، حيث برع الرئيس).
وكما صرّح بدران في مقالته: “يعتزم الرئيس أوباما وأد أية إمكانية لحدوث ذلك في عام الانتخابات”.
المقلق في هذا النهج هو وجود إدراك متزايد لدى الدوائر السياسية بأن طاقم أوباما السياسي يمهد الطريق لخلق مشكلة أكبر للرئيس في وقت لاحق. بصرف النظر عن الفظائع المرتكبة فهناك أسباب كافية جداً لوضع اعتبارات عام الانتخابات جانباً، والتركيز الفوري على صياغة سياسة تجاه سوريا يكون من شأنها الحيلولة دون انزلاقها نحو الفوضى التي لن تفيد أحداً سوى خصومنا.
اليوم فقط، أعلنت الأمم المتحدة عن مقتل أكثر من 9000 من السوريين. أحد مراقبي منظمة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أعلن اليوم أيضاً أن الأسد يرتكب “جرائم ضد الإنسانية”، عبر استهداف وتعذيب وسجن الأطفال.
وفي مفاجأة متوقعة! وفيما “وافق” الأسد يوم الاثنين على خطة أنان للسلام القاضية بوقف إطلاق النار، وهو الأمر الذي يتطلب من قواته الانسحاب من المدن والبلدات المحاصرة، شنّت قوات الأمن السورية هجوماً على المناطق التي يسيطر عليها المتمردون على الحدود اللبنانية في انتهاك صارخ لوقف إطلاق النار المعلن من طرفه.
سيعقد في أنقرة بتاريخ الأول من أبريل اجتماع ثان لـ “أصدقاء سوريا”. ونظراً لغضبها من تذبذب الولايات المتحدة، تخطط تركيا وحلفاؤها في جامعة الدول العربية لإجبار واشنطن على التنازل ولو قليلاً عن موقفها السياسي والتزام العمل المنسجم معها – على الأقل لتقديم دعم صريح لقضية إنشاء ممرات المساعدات الإنسانية – ودعم خطة أنان بهدف زيادة الضغط على الأسد لمرة أخيرة، يتوقف بموجبها عن إراقة الدماء. ففي ظل غياب واضح لقواتها على الأرض، ثمة أكثر من ذلك بكثير مما يمكن عمله للمساعدة في تخفيف المعاناة البشرية، وتوفير الدعم العسكري غير الفتاك للجيش السوري الحر، ووضع الأسد تحت الضغط. وقد وردت بعض التقارير التي تفيد بأن الإدارة ربما تكون استوعبت الرسالة، وإن كان ذلك متأخراً.
لكن إذا رفضت الولايات المتحدة تقبّل رؤى جديدة من “أصدقاء سوريا”، عندها يجب عليها، وبحسب عبارتها التي وجهتها ذات يوم للأسد، “أن تتنحى عن الطريق”. من حسن الحظ، أن حلفاءنا الأتراك والأوروبيين والعرب ليس لديهم ذريعة حملة انتخابات رئاسية تمنعهم اعتماد سياسات ناجعة وعاجلة ضد الأسد، والتي تفضي إلى ضمان مكاسب إستراتيجية ضخمة للولايات المتحدة على صعيد مصالح أمنها القومي في الشرق الأوسط.
المصدر