شهادة كاتب سوري شاب يقطن في العاصمة السورية حول الانتفاضة وتبعاتها من حملات قمع في شتى أنحاء البلاد
2 أبريل/ نيسان 2012

وافق كاتب سوري شاب يقطن في العاصمة السورية على أن يطلعنا على بعض ملاحظاته ومشاهداته حول الانتفاضة وتبعاتها من حملات قمع في شتى أنحاء البلاد، وقد تم حجب اسم الكاتب لدواعي أمنية.
خلال الأشهر الماضية رأيت جارتي أم سوسن مرتين أسبوعياً على الأقل. تربطنا علاقة ودية إن لم أقل خاصة، فهي تعرض عليّ أحياناً أن تقلني بسيارتها إلى المحل، وكانت تناديني من النافذة، كما أني أعرف أسماء وأعمار أطفالها، بل وأعرف عندما يمرض أحد أطفالها أو عندما يدرسون للإمتحان. أعرف أن جارتي مسيحية وتدير مع زوجها مشروعاً صغيراً، كما وأنها تؤيد نظام الأسد حتى العظم.
وعلى مدار العام الماضي من الثورة في سوريا، وهو عام تميز بتزايد الاحتجاجات وتصاعد العنف الدموي وانتشار الفوضى وتعميق الحرمان الاقتصادي، فقد حافظت على ابتسامتها دون تردد وهو ما كان شائعاً بين المدافعين عن الأسد. وقد قامت وعلى مدى عدة شهور بتكرار الرواية ذاتها والمشابهة لرواية التلفزيون الرسمي إلى حدِ بعيد: هناك مشكلة إرهابية صغيرة في حمص تدار من قِبل أطراف أجنبية من الممكن أن يكونوا مخربين مدعومين إسرائيلياً، ولكن الحكومة أعادت السيطرة على الموقف.
ومع ذلك وقبل أسبوعين، وعندما كنا نتبادل تحية الصباح المعتادة سألتني عن أحوالي فأجبتها: “تمام”، بدون تحفظ “وأنتِ؟ “عايشة” أجابتني. لم تكن على ما يرام, لم تكن في حالٍ جيدة حتى.. لقد كانت “عايشة”.
لقد فقدت الليرة السورية بالنهاية أكثر من نصف قيمتها مقارنة بالعام الماضي، وفضائح الرسائل الإلكترونية للأسد التي كانت قد تسربت مؤخراً إلى الشارع، بالإضافة إلى انفجار سيارتين مفخختين في دمشق، وإعلان روسيا أن خطة كوفي أنان هي فرصة سوريا الأخيرة لتفادي حرب أهلية طويلة ومدمرة.
إن التحول في موقف جارتي يمثل ما يمكن أن نقول عنه موجة ظهرت مؤخراً، واجتاحت الجماعات المعروفة تقليدياً بتأييدها المطلق للأسد، كالأقليات الدينية والطبقة المتوسطة في دمشق، والنخبة المتمدنة أيضاً. قد لا نراهم يتدفقون للانضمام إلى الجيش الحرّ، ولكنهم بدأوا بطرح أسئلة جديدة تعبر عن شكوكهم وامتعاضهم، والتي تعكس وتنتقد بل وتذهب أكثر من ذلك لوضع تصور لبدائل للوضع القائم بطريقة بدّت شبه مستحيلة قبل ستة أشهر خلت.
هناك جملة من العوامل وراء الثورة أو على الأقل وراء الهزّات الأولى للثورة، والتي شكّلت نهجها العام، فهناك جيل جديد حُرم سابقاُ أو لم يلق أذن صاغية لمظالمه ومطالبه وأهدافه. الاقتصاد ينهار بسرعة، على الرغم من أن الشرائح الأفقر في المجتمع السوري هي التي تعاني من هذا الاقتصاد غير المدروس وغير الموجه، والذي كان على حافة الانهيار حتى قبل اندلاع موجة الاحتجاجات الأولى. لقد بدأت الطبقة المتوسطة أخيراً تتفهم حالتها غير المستقرة، فمدخراتهم تفقد قيمتها بسرعة، كما أن ارتباطاتهم لا تمكنهم من تجاوز النقص بالغذاء ووقود التدفئة، وهم يحيون الآن في خوف وشلل دائم من التعرض للنهب، أو ما هو أسوأ من ذلك على أيدي الجماهير الجائعة والساخطة.
لا يستطيع نظام الأسد ضمان الاستقرار والأمن، حيث كانا حتى وقت قريب من المنجزات التي طالما تغنّى بها النظام. استمرت الثورة لأكثر من عام على الرغم من الاعتقالات بالجملة والترهيب والاعتداء الوحشي على السجناء، وتمركز الدبابات بشكل تهديدي على طول الطرق الرئيسية، وساحات المدن بالإضافة إلى ميليشيا متهورة ومتنقلة، وحضور كثيف لقوات الأمن وانتشار لنقاط التفتيش التي تخنق أغلبية الطرق. وبينما تظهر قصص عن رجالات النظام- جنرالات بالجيش وقادة أجهزة أمنية سيئة السمعة، وعن أطباء اُتهموا بالتعذيب- تم تصفيتهم ببيوتهم وهو ما يشكل رعباً جدياً يحاصر الطبقة المتوسطة المتواطئة.
عندما تنفجر سيارة ما، ممزقةً الشوارع ذاتها التي يعبرونها في رحلتهم الصباحية كل يوم إلى أماكن أعمالهم، يتساءل المهندسون والمحامون والأطباء من أبناء الطبقة المتوسطة في سوريا شطر من يجب أن يوّلوا وجوههم طلباً للحماية. يتنهدون بنبرة متعبة وبشكوك مع نفاذ صبرهم وهم يرون الجيش يدخل حمص مرة ثانية لقمع المتمردين، ويدخل درعا مرة أخرى أيضاً، ودير الزور أيضاً، وبغض النظر عن العنف أو عن وعود الإصلاح تستمر الثورة السورية بالانتشار مثيرة السخرية من الحكومة التي تبدو عاجزة وبشكل متزايد.
لقد تغيرت شعارات الثورة من المطالبة بالانتخابات إلى المطالبة برأس الأسد، كما تغيّر الثوار أيضاً، وأصبحوا أكثر التزاماً، وعلى استعداد لحمل السلاح عند الضرورة. هم مستعدون للتضحية بحياتهم وللقتال لسنوات أو حتى لعقود، إذا كان ذلك سيحقق الديمقراطية ويسترجع الحقوق. وهكذا فإن وسط سوريا- الطبيعي, المتوقع والمقبول- بدأ بالتحول أيضاً، فقبل سنة وعند بداية الانتفاضة كانت الدعوة إلى إقامة نظام حكم تعددي هي بمثابة دعوى تخريبية، أما الآن فقد تغيرت شروط النقاش ومداه وفحواه أيضاً.
وعند المرور من نقطة تفتيش مؤخراً، اشتكى سائق الحافلة الصغيرة وبصوت عالٍ من غباء الجنود، وقد فعل ذلك على الرغم من تواجد جنود في المقاعد الخلفية للحافلة. وحتى وقت قصير مضى، فقد كان التلفزيون رتيب وأقرب إلى قناة أمريكية للأفلام، أما الآن فهو يعرض قناة البي بي سي العربية علانية وبصراحة وتحدٍ – والتي كانت مدانة من طرف النظام كأحد أبواق الإرهابيين المضللة.
كما أن البقية المتبقية من مؤيدي الأسد لم تعد تؤمن أو تسلّم بعصمة الأسد بالمطلق، أو حتى لم يعد لديها الرغبة باستمرار حكمه. وفاء امرأة من الطبقة العاملة من دمشق، وأم لطفلين تصرّ على أن الأسد ليس السبب الرئيس للأزمة، وأنه، أي الأسد، شخص جيد ومستقيم، ولكن من هم حوله من بطانته هم من يتصرفون بوحشية. “إنه ضعيف, إنه ضعيف جداً”، تقول وفاء محاولة أن تشرح موقفها. يوسف وهو سائق تكسي في ضواحي دمشق يؤكد على حبه المطلق للأسد قبل أن يختم كلامه قائلاً: “نتمنى أن ينجوا من هذا”.
أبو سوسن, زوج أم سوسن الذي يشاركها الرأي نفسه، يحلف بأغلظ الأيمان بأن المعارضة في حمص هم سلفيون, إرهابيون وحيوانات، ويعترف بأن على حزب البعث أن لا يحكم البلد بعد الآن. وحتى خالد وهو شاب من عائلة محلية بارزة، الذي يدّعي بأنه جندي على الرغم من أن جيرانه يؤكدون أنه عضو في ميليشيات الشبيحة المؤيدة للأسد، يؤكد بأن الثورة ستنتهي عندما توافق حكومة الأسد على اقتسام السلطة مع المعارضة وعندها يقول متابعاً “سنرى”.
هؤلاء هم المؤمنون المخلصون، والموالون الذين دعموا النظام على مرّ أشهر عديدة من العنف القاسي، ولكن يبدو أن الشك قد وجد طريقه إليهم. لقد بدأت القاعدة التي يقوم عليها نظام الأسد بالتداعي كنذير شؤم، وهؤلاء لا يدعون إلى إسقاطه، كما أنهم لا يعلنون أنهم من أنصار المعارضة، فهم لم يقرروا بعد ما هي وجهة نظرهم أو مطالبهم حتى الآن، ولكنهم بدأوا يطرحون أسئلة جريئة, جديدة وهدّامة. لقد بدأوا بالشك بعدما لاحظوا مدى الفشل والإحباط، كما أنهم بدأوا ينظرون إلى مرحلة ما بعد ظل الأسد بحثاً عن رؤى أخرى للمستقبل.
المصدر