1848: ظلال التاريخ تخيم على الشرق الأوسط

 روبيرت د. كابلان Robert D. Kaplan

ستراتفور – 15 آذار/مارس 2012

 

كان العام 1848 في أوروبا العام الذي لم يكن. شهد ربيع وصيف ذلك العام حركات احتجاج قام بها المثقفون البرجوازيون وثوار الطبقة العاملة في المناطق الممتدة من فرنسا إلى البلقان، هزت هذه الاحتجاجات الأنظمة القديمة على أمل إنشاء أنظمة ديمقراطية ليبرالية جديدة. لقد قورن الربيع العربي مراراً بثورات عام 1848؛ إلا أن ثورات 1848 انتهت بالفشل تماماً باستثناء إطاحتها بمملكة أورليون في فرنسا، فقد استطاعت حكومات الأسر المالكة استعادة اعتبارها حينئذ. تمكنوا من فعل ذلك لذات السبب الذي يشكل مأزقاً للشرق الأوسط حالياً: لم تملك الأنظمة المحافظة في أوروبا القرن التاسع عشر أفضلية مؤسساتية تتفوق بها على خصومها الليبراليين والاشتراكيين فحسب، بل تمتعت بالأفضلية الأخلاقية أيضاً.

حققت الأنظمة المحافظة، التي تجسدت بمستشار هابسبورغ النمساوي كليمنس فون مترنيخ Clemens von Metternich الاستقرار على مستوى القارّة بعد الحروب النابليونية التي قتلت من الأوروبيين ما يعادل نسبياً ما قتل في الحرب العالمية الأولى. كانت إمبراطورية مترنيخ في هابسبورغ، التي كانت تضم 11 قومية مختلفة، تعد المفتاح الجيوسياسي لنظام أوروبي مستقر (على الرغم من أن الهابسبورغيين أنفسهم كانوا قوة ضعيفة بالمقارنة مع بريطانيا العظمى وفرنسا). وعلى الرغم من ذلك، كان الإصلاحيون عام 1848 غير راضين تماماً، كحال الناس في كل مكان وفي كل عصر. وعندما حلّ عام 1848 كان قد مضى على أعمال نابليون المروعة أكثر من جيل، وبالتالي اعتبرت حقبة مترنيخ مجرد مرحلة رجعية. لكن الآمال التحررية لعام 1848 تبخرت وسط القضايا العرقية والقومية التي كشفها ضعف نظام مترنيخ، والتي يمكن مقارنتها بالتوترات الفئوية التي نزلت بالعالم العربي اليوم.

في الواقع، ما حدث في أوروبا أن المصالح العرقية سرعان ما فاقت المطالب العامة؛ فبينما رحب الألمان والهنغاريون بضعف حكم هابسبورغ من خلال احتجاجات عارمة في الشوارع ألهمت المثقفين الليبراليين في كل العالم الغربي، خاف السلافيون والرومانيون من الحرية التي نادى بها الألمان والهنغاريون. فبدلاً من الترحيب بالديمقراطية بحد ذاتها، خشي السلافيون والرومانيون من استبداد حكم الأكثرية. ومن بين السلافيين كان هناك السلوفاك والصرب والكرواتيون الذين سرعان ما دخلوا في صراعٍ عنيف مع حكامهم الهنغاريين الجدد. استغل نظام هابسبورغ في فيينا هذه الانقسامات بالإضافة إلى تلك التي نشأت بين الأوكرانيين والبولنديين في الشمال.

توجد فوارق جوهرية بين أحداث عام 1848 في أوروبا وأحداث الشرق الأوسط عامي 2011-2012. فعلى عكس حسني مبارك في مصر وبشار الأسد في سوريا، لم يقم مترنيخ بتشخيص الحكم المتهاوي بشخص واحد أو بزمرة حاكمة، بل حكم من خلال قوانين ومؤسسات. كما أن نظام هابسبورغ متعدد اللغات والواقع في مركز أوروبا الجغرافي كان قد أنشأ منظومة أخلاقية ضرورية تحقق السلام بين الأمم العرقية. لهذا السبب استطاع نظام مترنيخ النجاة رغم أنه هو نفسه قد استبدل عام 1848.

وعلى الرغم من عدم وجود نظام مشابه لهابسبورغ في الشرق الأوسط، ليست جميع الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي مهيئة للزوال لذات الأسباب التي لم يزل من أجلها نظام هابسبورغ النمسا. هذه هي الحقيقة المرّة للشرق الأوسط اليوم: إذا كانت الأنظمة المحافظة، وحتى الرجعية، ضرورية من أجل السلام الاجتماعي الداخلي فقد ينجون بشكل أو بآخر، أو على الأقل سيظهرون من جديد في أماكن كمصر والعراق.

أثبت العراق خلال عامي 2006 و 2007 بأن الفوضى أسوأ من الاستبداد في بعض الجوانب. إذاً وببساطة لا يكون النظام أخلاقياً إذا لم يستطع أن يحافظ على السلم الأهلي. كتب جون ستيورات ميل في “آراء حول الحكومة التمثيلية” عام 1861: “التقدم يتضمن الاستقرار، لكن الاستقرار لا يتضمن التقدم”. بمعنى آخر لا أحد يدعي بأن الأنظمة المحافظة/الرجعية ستقود إلى إصلاح اجتماعي؛ على الرغم من ذلك ولأن الاستقرار ضروري قبل تحقيق التقدم، يمكن للأنظمة الرجعية أن تستفيد من الفوضى في بعض البلدان الشرق أوسطية بشكل مشابه لما كانت عليه هابسبورغ بعد عام 1848. فغالباً ما يتم استدعاء الأنظمة المحافظة من هذا الشكل أو ذاك لإعادة النظام.

مثلاً إذا اعتبر الجيش ضرورياً من أجل السلم الأهلي بين المسلمين والأقباط في مصر فذلك سيعطي الجنرالات سبباً إضافياً ليتشاركوا السلطة مع الإسلاميين بدلاً من الانسحاب كلياً من السياسة. وبالتالي فإن الإطاحة بمبارك لن تعني ثورة بل انقلاباً. إذا تعثرت الديمقراطية في ليبيا، حيث الدولة ذاتها تتهاوى، فقد يظهر مع الوقت زعيم جديد ليمنع انهيار البلاد. (اليمن يعاني منذ الآن من هكذا فوضى. فالانتخابات الأخيرة في صنعاء لا تستطيع أن تخفي حقيقة أن النظام، إذا كان موجوداً، فقد السيطرة على مساحات كبيرة من البلاد—أكثر مما فقدها النظام القديم قبل عام 2011).

في حين يعتبر الأسد في سوريا غير شرعي، فإن ذلك لا يعني أن مستقبل سوريا هو تلقائياً إما الديمقراطية أو الفوضى الطائفية. قد يعني في النهاية شكلاً جديداً من التسلطية التي تخفف أو تحسن إدارة فوضى كتلك بشكل أفضل بالدرجة الأولى. تذكروا أن النظام لا يعرف بالاسم الذي يدعو به نفسه وإنما بالطريقة التي تعمل بها علاقات النفوذ وراء الستار. فمثلاً قد يدعو العراق نفسه ديمقراطية ولكن في الحقيقة هو نظام حكم “بلطجي” طائفي بالكاد يحافظ على الاستقرار، وإذا استمر بالتداعي في هذا الاتجاه فربما يتم استبداله في نهاية الأمر بنظام تسلطي كامل (يرجى أن يكون أقل وحشية بكثير من نظام صدام حسين).

في الواقع، لم تضمن الثورات الديمقراطية عام 1848 تحقيق الديمقراطية؛ كل ما قدمته أنها سلطت الضوء على حقيقة أن المجتمع أصبح مضطرباً ومعقداً إلى درجة لم تستطع معها الأنظمة الملكية القائمة حينها ضمان الاستقرار والتقدم معاً. كتب العالم السياسي في جامعة هارفارد، صموئيل هنتنغتون، في كتابه “الاستقرار السياسي في المجتمعات المتغيرة” عام 1968 بأنه كلما ازداد تعقيد المجتمع يزداد عدد المؤسسات اللازمة لتحكمه.

لذا يتوجب على المرء ألا يلتبس عليه أمر تشكيل أنظمة جديدة في الشرق الأوسط مع عملية تثبيت أركانها فعلياً. سيتطلب ذلك قوة قسرية على شكل قوات شرطة جديدة ووكالات استخبارات، ذكر ذلك أنطونيو غيستوزي Antonio Giustozzi من كلية لندن للاقتصاد في كتابه الجديد المثير “فن الإجبار” الذي صدر عام 2011. لا يخفف من أشكال الإكراه الشديدة هذه إلا بناء مؤسسات مدنية كالتي يتحدث عنها هنتنغتون، والتي ستستطيع حينئذ أن تحفظ الاستقرار بطريقة أكثر اعتدالاً. إذا لم تنشأ مؤسسات بيروقراطية جديدة في الشرق الأوسط الذي ازدادت مجتمعاته تعقيداً فسيفشل الربيع العربي وسيتم تذكره كأحداث عام 1848.

في هذه الأثناء يستمر الحكم التسلّطي لعائلة آل سعود في السعودية، محور شبه الجزيرة العربية. وبدرجة أقل تبدو الملكيات من الكويت إلى عُمان جنوباً غير معرضة للخطر. فباستثناء الشيعة المضطهدين في البحرين وفي شرق السعودية، لا تزال شعوب الخليج العربي إجمالاً تربط الاستقرار والتقدم بالأنظمة المحافظة. وهكذا يحظى الأمراء والسلاطين بولاء رعاياهم وبالتالي بالأفضلية الأخلاقية.

تشكل سوريا في هذه اللحظة بالذات مؤشراً على التطورات المستقبلية في المنطقة. لقد ابتليت بانقسامات عرقية وطائفية – السنّة في مقابل العلويين الميّالين للشيعة في مقابل الدروز والأكراد. لكن سوريا تتمتع أيضاً بميراث من التعايش التاريخي لكونها المركز القديم للمدنية العالمية على ملتقى الطرق بين الصحراء والمتوسط، مكان غني بآثار الحضارة البيزنطية والحضارة العربية في القرون الوسطى. يعتبر المثقفون الغربيون الآن أن إسقاط الدكتاتور الحالي في سوريا أمرٌ أخلاقي، في حين يحتاج هذا الأخير إلى تلك الانقسامات الطائفية كي ينجو. ولكن عما قريب، بعد النهاية المتوقعة لنظام الأسد، سيرتبط الناتج الأخلاقي بتحقيق الاستقرار الداخلي من جديد وبناء المؤسسات؛ سواءً كانت قسرية أم لا. لأنه بذلك فقط يمكن البدء بالتقدم.

كان لعام 1848 تداعيات مأساوية: فبينما أزهرت الديمقراطية في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، ابتلعتها الفاشية ثم الشيوعية. فكان على ثورات 1848 أن تنتظر حتى عام 1989 لتجدد نفسها بحق. جرى التغيير السياسي في الشرق الأوسط بشكل أسرع بسبب التطور السريع للتكنولوجيا. ولكن حتى يذكر عام 2011 بأنه حقاً عام الديمقراطية في العالم العربي، يجب أولاً تأسيس أشكال جديدة لنظام غير استبدادي. ربما باستثناء تونس، البلد القريب من أوروبا لا يعاني انقسامات عرقية أو طائفية، يبدو ذلك موضع شك في الوقت الحالي.

المصدر

1848: History’s Shadow Over the Middle East

One response to “1848: ظلال التاريخ تخيم على الشرق الأوسط

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s