بيتر هارلينج Peter Harling
مدير مجموعة الأزمات الدولية (مصر، سوريا، ولبنان).
24 كانون الثاني/ يناير 2012
منذ شهور عدة، لم يتمكن النظام السوري أو المجتمع الدولي، ولا حتى المعارضة الخارجية، من تقديم مزيدٍّ من الأمل في حل الأزمة المتدهورة بشكل خطير. يبدو أنهم، وبشكل متصاعد، متواطئون عن غير قصد في إحداث حرب أهلية بالرغم من أنها لن تخدم مصالح أيّ طرف، وستزعزع الاستقرار في سوريا لسنوات، كما أنها ستنتقل إلى باقي المنطقة. إن سعيهم الدائم إلى توسيع مطالبهم قد يُخرب ما يسمى بالفرصة، والتي لا تزال موجودة للانتقال عن طريق التفاوض.
تتمثل رؤية النظام في اتخاذ إجراءات صارمة ضد مثيري الشغب المدعومين من الخارج، ومن ثم الانفتاح سياسياً ضمن حدود المعقول – كما حدث في الأردن والبحرين من وعود بإصلاحات محدودة. اللاعبون في الخارج عازمون حالياً على إزالة النظام. في النهاية إنه رهان، سوف يُدرك أنه لا يمكن تدميره؛ وهو رهان متردد بالفعل لعدم وجود خيارات جيدة بالإضافة إلى الخوف من الفوضى القادمة. وبناءً على ذلك سيتحركون على مضض للتخفيف من الضغط وفي الوقت المناسب، حتى ولو اُستأنف الاشتباك. إن المتعاطفين مع النظام ومع حلفائه حريصون جداً على التصديق بأنه قويٌ، وأن حركة الاحتجاجات مبالغ فيها من قبل وسائل الإعلام المعادية. وأن المؤامرة الخارجية شاملة وعاجزة على حد سواء، وأن المجتمع السوري مليء بالأمراض وهو خليط من الأصوليين والسفاحين ومأجورين من طرف ثالث – وأنه يستحق العلاج من قبل الأجهزة الأمنية فحسب.
هذا السرد معيب بأكثر من طريقة. على مدى 10 أشهر بدأ النظام بالانهيار ببطء، ويظهر في الهياكل السياسية أنه ضعيف من الخارج ومتآكل خلف الإصلاح، لقد فقدت السلطة التنفيذية أية قدرة ملكتها يوماً في تنفيذ سياساتها، كما أن الحزب الحاكم هو صَدَفة فارغة.
ما زالت الأجهزة الأمنية متماسكة إلى حد كبير، وعلى استعداد للقتال، إلا أنها في كثير من الأماكن وعلى نحو متزايد تشبه في أحسن الأحوال قوة معزولة عن المجتمع، وفي أسوأ الأحوال عبارة عن مجموعة من الميليشيات الطائفية في حالة من الهياج. الجيش يتفتت ببطء، ولكن بشكل أكيد. تعتمد سيطرة النظام إقليمياً على بقاء حركة الاحتجاج سلمية بشكل كبير. الآن وبعد أن أخذ التمرد بالانتشار، فقد بدأ يفقد سيطرته. يمكن القول، لقد امتنع النظام عن استخدام الكثير من القوة الموجودة تحت تصرفه، خوفاً من وزن يرجح كفة الميزان ضده في المجتمع الدولي وبشكل حاسم.
من السهل إيجاد ما يكفي من القوات لإخماد حركة المقاومة في منطقة محددة، إلا أن الأمور تُترك لتنزلق في أماكن أخرى وفق لعبة خاسرة؛ ففي بعض المناطق المتمردة يبدو عليها الفوز، مدركين أن دورهم سيأتي قريباً، إذا ما سُمح للنظام بالتصرف معهم وبشكل متتالٍ [كلعبة ورق توزع كل ورقة تباعاً على اللاعبين]. في هذه الأثناء، يتسارع انهيار الاقتصاد. في إحدى المسيرات المؤيدة بدا وكأنها تقلصت من حيث عدد المشاركين الموالين إلى درجة أن اللقطات الرسمية المصورة أُخذت عن قرب بدلاً من التصوير عبر الجو. “الغالبية الصامتة” والتي يدّعي النظام أنها إلى جانبه هي الآن غاضبة وخائفة: فهي تلقي باللوم على الجهتين: على قيادة البلاد بسبب الكوارث التي تحدث بالإضافة إلى أنها ترتاب من حركة الاحتجاج، وعلى المعارضة في المنفى والعالم الخارجي لأنهم لم يقدموا أي أفق واضح للمستقبل بخلاف حالة الفوضى المتزايدة.
على المستوى الشعبي، فإن الصورة تختلف أيضاً عن حقيقة النظام، فالمتحالفون والحلفاء يودون لو يصدقوا. حركة الاحتجاج، والتي مازالت حتى يومنا هذا غائبة بشكل واضح عن الرواية الرسمية، واضحة للعيان على نطاق واسع، ومتماسكة بشكل بديهي، وبطرق عديدة متطورة. حتى الآن ضمت [حركة الاحتجاج وبحسب رواية النظام] بشكل فعال قطاع الطرق واللصوص والطائفية والأصولية الموجودة بشكل واضح داخل المجتمع. في الواقع، الجوانب الفضلى لحركة الاحتجاج تتمثل في كونها الحصن مقابل تلك الشرور، في الوقت الذي كان فيه النظام المسيّر لأعمال الحكم – تفاقمت التوترات الطائفية كتكتيك للانقسام واُستهدف النشطاء السلميين، وعندما بدأ النظام بفقدان السيطرة جزأ أراضيه في عملية لفصل المناطق -مما جعل الأمور تسوأ أكثر يوماً بعد يوم.
خلافاً لحالة ليبيا، تطّلب الأمر شهوراً من البلطجة والارتباك واليأس بالنسبة للسوريين للدعوة إلى التدخل الدولي (وهو ما يبغضونه بالعادة)، وإلى رفع الأسلحة على نطاق واسع (الخيار الذي يجب أن تكون الغالبية العظمى متفقة عليه كملاذ أخير)، والسماح للصراع السياسي بأن يفسح المجال لحرب أهلية بشكل ماكر (كما يحدث في بعض أجزاء من سوريا). إذا تعمقت الفوضى بشكل أكبر، فإن المجرمين، والمتطوعين من الخارج، والجماعات الأصولية في الداخل، سيصبحون من أكثر الميزات البارزة لهذه الأزمة – إنها نبوءة ذاتية تتحقق!
فيما يخص نظرية المؤامرة فإن هناك حدوداً لها. وفي الحقيقة، فإن حركة الاحتجاج قد لا يُكتب لها النجاة. فضلاً عن ازديادها، دون تعاطف معها بهذا الشأن. وفي بعض الأحيان تكون متحيزة للغاية وغير مهيأة لوسائل الإعلام الدولية، بالإضافة إلى الدعم اللوجستي الكبير لها من الخارج، ولاسيما ضمن مسألة المغتربين المهجرين الآخذة بالتوسع .
لكن حتى ولو أخذنا تلك العوامل بعين الاعتبار، فإن الحقائق على أرض الواقع لا تأتي من أي مصدر قريب من رواية النظام. فالقول بأن هناك إرهابيين إسلاميين متعطشين للدماء تحت رعاية خارجية يصعب العثور عليهم وسط بحر من المواطنين العاديين الغاضبين بدافع من المظالم المحلية، وقبل كل شيء كرد فعل على سلوك ووحشية الأجهزة الأمنية غير الخاضعة للمساءلة، (والتي إلى الآن يراها نسبة كبيرة من المجتمع السوري). تشكو الجماعات المسلحة الخارجية [الجيش الحر المنشق] بمرارة من الأسلحة غير الكافية ومن النقص في الذخيرة، مما يوحي في الوقت الحالي إلى نقص في العمق الاستراتيجي.
المجتمع الدولي، عاجز ومنقسم، وحتى الآن لم يتصرف بشكل حاسم. أما الغرب، فقد أعرب عن أمله في البداية بأن النظام سيدير الأزمة بشكل أفضل – بالتالي فإنه يتجنب المغامرة المحفوفة بالمخاطر في الجزء الحساس من العالم: على الرغم من أن العملية لا تزال غير واضحة، مع وجود توافق في الآراء حالياً والتأييد بتغيير النظام، ومع وجود أحلام التغيير الإقليمية الكامنة في خلفية إعطاء التأثير المأمول والمتعاقب على حزب الله في لبنان والقيادة في إيران.
روسيا تشعر بالقلق إزاء عدم الاستقرار في المنطقة كلها، ومن احتمال التمكين المتزايد للإسلاميين، ومن محاولات الغرب المتعجرف لدفع جدول أعماله تحت ستار القيم الأخلاقية النبيلة.
وقد شاركت جامعة الدول العربية بشكل بناء، في إرسالها المراقبين، والذي يمكن أن يكون قد فشل في حل الأزمة، إلا أنه قاوم التصعيد في العنف من جميع الأطراف، ما قد يتخيله المرء في حالة عدم وجودهم. لسوء الحظ، أعضائها الأكثر حزماً هم أولئك الذين يتمتعون بمصداقية أقل في أخذ زمام المبادرة – المملكات الخليجية والتي توحدت لإخماد الاحتجاجات الشعبية في البحرين تميل إلى تبني منظور طائفي على الأحداث في المنطقة، ولم تفعل سوى التشدق بالكلام لدفع عملية الإصلاحات.
تعثرت دول عربية أخرى والتي هي أساساً في حالة من الفوضى بسبب التوترات الداخلية، ولخوفها من مزيد من عدم الاستقرار الإقليمي، كذلك فقدان الثقة بالغرب، نظراً لسجلها الحافل بجعل الأمور أكثر سوءاً، في هذا الجزء من العالم. كانت النتيجة جهوداً بطيئة الحركة، إلا أنها كانت مصممة على حبس النظام في مجموعة من القيود والتي يمكن من خلالها دفعه لمعرفة حقيقة أزمته الداخلية والتفاوض على الخروج منها، في حين عملت على صد أي خطر محتمل جراء التدخل الغربي. وهكذا فقد أُعلنت الخطة الانتقالية هذا الأسبوع، والتي تنطوي على دور مؤقت لنائب الرئيس السوري، وإنشاء حكومة وحدة وطنية، وانتخاب لجنة دستورية، وإصلاح الأجهزة الأمنية، ويوفر الآلية التي يمكن البناء عليها وتعزيزها. إذا كان الدعم للانتقال إلى التفاوض يأتي من جميع الجهات، فإن الضغط الحاسم سينتقل إلى التأثير على النظام والذي يتوقف مصدر قوته الأساسي حالياً على اللعب على التأييد الروسي وسياسة حافة الهاوية الغربية في مقابل بعضهم البعض.
جزء من المشكلة كان في الأداء الضعيف للمعارضة في المنفى. حتى وهم يتحدثون مراراً وتكراراً على شاشات الفضائيات عن معاناة ذويهم في بلدهم الأم، فقد استهلكوا، حقيقة، الجزء الأكبر من طاقاتهم في الخصومات الشخصية، والضغط من أجل الاعتراف الدولي بهم، ومناقشة التدخل الأجنبي الذي – سواء كان مرغوباً أم لا – لن يحدث ببساطة في المستقبل المنظور. كما ركزت على تتبع مزاج الشارع السوري بدلاً من أن تقود هي الطريق إلى الأمام، وأغلقت الباب في وجه أي انتقال للتفاوض، وانتقدت مبادرة الجامعة العربية بدلاً من اقتراح سبل لتحسين ذلك، وفشلت في التعبير عن إستراتيجية ذات مصداقية وقابلة للتطبيق.
حتى الضرورات السياسية الأكثر وضوحاً، مثل تقديم آفاق عملية للمصالحة مع أولئك (على الرغم من أن عمليات القمع لم تكن قد بدأت بعد) الذين تلاقوا على غير توقع تفضيل المعارضة لمحاكاة إحباط المواطنين العاديين، وذلك بعد شهور من تصعيد النظام للعنف. ومع ذلك، فإن المفتاح لحل الفجوة الاجتماعية العميقة التي ظهرت في سوريا يجب أن يكون حازماً وبخطى سلسة لإصلاح الأجهزة الأمنية القائمة، كما ويجب الاستفادة من دروس الكارثة العراقية.
كل الأطراف كانت غير قادرة على الاتفاق على ما يمكن أن يكون حلاً معقولاً صادراً من مجلس الأمن الدولي:
من الواضح أن قرار مجلس الأمن لا يؤيد التدخل العسكري الأجنبي، وذلك من أجل طمأنة روسيا، ولأنه ليس ضمن أوراق اللعبة وفق المعايير الحالية للصراع على حد سواء؛ دعوة جميع الأطراف إلى وقف إطلاق النار، محملاً النظام جر البلاد إلى الهاوية؛ وتحميله المسؤولية الكاملة عن السعي لإيجاد حل، ومطالبته بتنفيذ خطة الجامعة العربية بتطبيق الخطة الانتقالية، والإصرار على احترام الاحتجاجات السلمية في إطار بعثة المراقبين المدعومة بأجهزة الأمن، مع نشر مزيد من المراقبين العرب كجزء لا يتجزأ من قلب جهاز الأمن حيث المطلوب هو مواجهة الجماعات المسلحة.
قد يختار النظام تجاهل ما وصفه البعض بأنه قرار ضعيف. في الواقع ما مكنه من تجنب الضغوط الدولية حتى الآن، هو الشعور بأن اللاعبين الرئيسيين مثل روسيا وغيرها قد تغاضوا عن نهجه، ما منحه عاملاً حاسماً للثقة بالنفس داخل صفوفه.
إن قراراً من مجلس الأمن هو الرافعة الوحيدة المتاحة التي يمكن أن تؤثر على القيادة السورية حيث تشعر هذه الأخيرة بأنها محمية بسبب الانقسامات السائدة على الساحة الدولية، والتي بالأحرى ستأخذ البلاد إلى طريق الحرب الأهلية بدلاً من التفاوض من أجل الحصول على ما يمكن تحقيقه، (ليس أقل من ضمانات للطائفة العلوية، وتسليم تدريجي للسلطة، وضمان استمرارية المؤسسات)،على حساب التخلي عن الأمل في الاحتماء، وتقديم الإصلاحات التي ترضي مؤيديها فقط والتي ستمكنها بطريقة أو بأخرى من البقاء في السلطة.
وينبغي أن لا يكون مفاجئاً أنه في حالة عدم وجود أي بصيص من الأمل فإن اليأس قد يرسخ في المجتمع السوري. وقد تم التعبير عنه بالفعل بأشكال متعددة، وكلها مقلقة، والأمور تتجه إلى الأسوأ. كما يميل السوريون أكثر للاعتقاد بأن جهودهم الجماعية دون جدوى، وأن العالم قد تخلى عنهم، وأنه لا يمكن للنظام إلا أن يحارب بنفس أساليبه، يمكن أن يتحول طبيعة الصراع إلى صراع أكثر تجزأً، وأضيق أفقاً، وأكثر وحشية.
سيكون من السهل على الإسلاميين تجنيد أولئك الذين تخلوا عن كل شيء إلا عن الله. وستوفر الاحتياجات اللوجستية للجماعات المسلحة فرصاً لكل من هو على استعداد للحفاظ عليها. وقد تتعمق الانشقاقات الطائفية. وسيخدم العنف المتوقع، كوسيلة للنهوض، مكونات قطاع الطرق أكثر داخل كل مجتمع. من الممكن أن الناشطين المبدعين، والمسؤولين، والمتطلعين إلى الأمام داخل حركة الاحتجاج سيشعرون قريباً بأنهم مهزومون – وحصل ذلك بالفعل مع العديد منهم. هذا الشعور، بالإضافة إلى الضغط الصارم من أجهزة الأمن، سيدفع البعض تدريجياً إلى الاستسلام أو الهروب إلى الخارج.
حتى الآن، وعلى ما يبدو فإن النظام وأغلب أنصاره وحلفائه، والنقاد، والأعداء كانوا يعملون في ظل الافتراض نفسه: الجمود القاتل للأزمة سيؤمن دوامها لفترة أطول، حتى يستسلم الجانب الآخر.
من الممكن أن يكون ذلك صحيحاً، إلا أنه ضمن الحدود الحالية يصبح من غير المحتمل الحديث عن أن هيكل السلطة سينهار فجأة، بمعنى أنه سوف ينجح في استعادة الأرضية التي فقدها، أو أن معارضيه سيندمجوا معه بأي شكل من الأشكال. وإذا استمر هذا المأزق لفترة أطول، يمكن أن يتحول الصراع بسرعة إلى حرب أهلية مفتوحة. وعلى الرغم من أن النظام يتحمل معظم المسؤولية عن جر الوضع إلى هذه النقطة، إلا أن المجتمع الدولي والمعارضة الخارجية لا عذر لديهما في وضع تلك الأزمة على طول الطريق المخيف.
المصدر
That’s a smart answer to a tricky quitoesn