روبرت ريد 19 شباط/فبراير 2012
أوبن ديموكراسي OpenDemocracy
فَشَل بعض عناصر “اليسار” في رؤية ثورة حقيقية حتى عندما تحدق في وجوههم
لا تعتبر الأمم المتحدة مثالية، ولكنها أحياناً الهيكل الدولي الوحيد للدبلوماسية الدولية والحكومات لتوضيح ما يؤمنون به، وما يمثلون، وما لا يمثلون. وبالتالي فمن المشجع رؤية الغالبية العظمى من الأمم المتحدة في الجمعية العامة ومجلس الأمن وهم يدعمون القرارات التي تعكس بشكل واضح رعب العالم مما يفعله بشار الأسد وأتباعه في سوريا.
ولكن كما ناقشت ماري كالدور Mary Kaldor هنا على موقع أوبن ديموكراسي OpenDemocracy، أن الوضع في سوريا يبقى مقلقا للغاية بسبب وجود روسيا والصين ضمن الأقلية الصغيرة جداً من دول العالم التي تعرقل أي عمل مؤثر ضد “الحكومة” السورية.
من المحزن بعد ذلك رؤية بعض “اليساريين” البريطانيين وبعض أعضاء “حركة السلام” يدعمون موقف الأنظمة الاستبدادية جداً في موسكو وبكين ضد الأغلبية العظمى من العالم والتعامل بشكل متساهل مع حكومة بشار الأسد القاتلة، الفاسدة، والفاشية في سوريا. أقصد هنا مثلا آخر مقالة صادرة عن “ميديالنز” Medialens.
لقد قمت سابقاً بنقد موقف ميديالنز نحو سوريا. الذي أريد التركيز عليه اليوم هو ليس فقط فشلهم في تقديم أي تعاطف أياً كان مع الثورة البطولية المتمثلة بالربيع العربي (قارن بين الكلمات المراوغة لـ “ميديالنز” في تحذيراتهم وبين التعاطف المستمر من قبل أفاز Avaaz مع الثورة السورية كما نقل على موقع أوبن ديموكراسي OpenDemocracy)، بل يحاولون فعلياً تقليل الإحساس بأن هناك كارثة بشرية في سوريا ترتكب من قبل طغمة الأسد. إنني مهتم على سبيل المثال في الحماسة الواضحة من “ميديالنز” في التلاعب والتقليل من أعداد الضحايا في سوريا (ماعدا الضحايا الذين سقطوا بسبب الجيش السوري الحر). المزيد حول ذلك فيما يلي.
أنا أيضاً مهتم باقتباسات “ميديالنز” من مصادر مشكوك فيها جداً في تحذيراتهم. نوهت في مقالتي السابقة لاقتبساهم الإيجابي فيما يتعلق بالأحداث في سوريا من شوسودوفسكي Chossudovsky: وهو أحد المروجين لنظرية المؤامرة في أحداث 11 أيلول/سبتمبر والذي يؤمن أيضاً بأن 7\7 مفتعل من قبل جهاز المخابرات البريطاني إم أي-6 MI6، ومن أوهامه أيضاً الخطر الإسلامي العالمي (والذي من أجله أصبح البطل سلوبدان ميلسيفيك خصماً نبيلاً ولذلك اغتياله من قبل “النظام العالمي الجديد”) تجاوزت جداً مناحات مارك ستين Mark Steyn وميلاني فيليبس Mellanie Philips…
في الجزء الثاني من تحذيرهم الأخير، كان المصدر الأساسي لميديالنز عن سوريا عبارة عن مقالة مروعة لروبرت دريفاس Robert Dreyfuss ومقالة أسوأ لايزلينج بايرن Aisling Byrne.
دريفاس، والذي يكتب أنه يتفق مع وزير الخارجية الروسي 100% على رد الفعل الهستيري لتصويتهم في مجلس الأمن، يدعي بأن أعداد الضحايا في سوريا مبالغ فيه بشكل عنيف. قد يكون ذلك صحيحاً لارقام ليالي القصف الفردية، ولكن على الأرجح فإن الأرقام العامة الآن أقل من الواقع بكثير، وذلك نظراً لارتفاع عدد “المفقودين” ونظراً لعدم استمرار العد فعلياً من الأمم المتحدة بسبب سوء حالة الاتصالات في سوريا، حيث تقوم حكومة هذا البلد ببساطة بتعذيب ومهاجمة وقتل العديد من أفراد شعبها. دعوني أعيد وبالتالي أركز على الحقيقة الأساسية هنا والمتعلقة بهذه المقالة: “ميديالنز” تدعم مقالة دريفاس هذه بدون التشكيك بأي جانب منها، ويقومون بشكل هادئ بالالتزام بادعاء دريفاس القائل بأن أعداد الضحايا المقدرة من النشطاء في سوريا “مبالغ فيها بشكلٍ مخيف”. وبالتالي فإنهم يوافقون تماماً رواية الحكومة السورية. تهانينا ميديالنز، كانت برافدا Pravda [الجريدة الناطقة بلسان الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي السابق] ستكون (على الأرجح مازالت) فخورة بكم.
قد لا يكون هذا كله محط مفاجأة لمن هم على اطلاع بحملة ميديالنز المخجلة ضد جورج مونبويت George Monbiot وغيرهم حول سربرنيتشا [بلدة بوسنية شهدت مذبحة شهيرة أثناء الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة]. قامت ميديالنز بانتقاد مونبويت بشكل منظم لجرأته في التصميم على ان هناك ابادة جماعية حصلت في سربرنيتشا. تم تفنيد ادعاءاتهم هنا وهنا . إن الارقام التي تصل إليها هذه الاحصائيات النرويجية تشير إلى الحد الأدنى من الوفيات في سربرنيتشا والتي أثبتت صحتها عن طريق كل الاكتشافات المادية التي تمت منذ ذلك الحين.
يعتبر ذلك عملاً علمياً جيداً، السبب في صحة تسمية “إبادة جماعية” على هذه المجزرة، هو أنه بقتل كل رجل وصبي مسلم، منع صرب البوسنة السكان المسلمين من إعادة إنتاج أنفسهم. لقد نجحوا في ذلك أيضاً، حيث أن سربرنيتشا حالياً جزء من جمهورية صرب البوسنة ولا يعيش فيها مسلم واحد. كل هذا يدل على أن الرقم 8000 لعدد الضحايا صحيح ومن الصحيح أيضاً أن يقال عنه إبادة جماعية.
نلاحظ هنا نمطاً معيناً، ميديالنز اعتادت على المبالغة في أرقام الضحايا في العراق (الأمر أقل وضوحاً الآن مما كان عليه سابقاً ذلك أن إحصائية لانسيت Lancet صحيحة)، رغم أنني أتفق تماماً مع ميديالنز على أن أسلوب عمل عداد الضحايا في العراق IraqBodyCount تقلل من الأعداد الحقيقية بوضوح، ولكن تقلل ميديالنز من أعداد الضحايا في سربرنيتشا أو سوريا. لماذا تريد ميديالنز التقليل من أعداد من قتلوا على يد الأسد في سوريا على عكس الأعداد في العراق؟ يتضح بأن الجواب للأسف بسيط جداً، وهو أن البشر الذي يقتلون بواسطة أعداء الإمبريالية الغربية ليس لديهم القيمة نفسها للضحايا الذي يقتلون بالإمبريالية الغربية بحسب وجهة نظر ميديالنز.
أما بالنسبة لبيرن، فهي تدعي بأن ادعاءات أعداد القتلى في سوريا مشكوك فيها كالشك في وجود أسلحة دمار شامل في العراق. يعتبر ذلك صفعة وإهانة عظيمة لعائلات الآلاف من المعذبين، المفقودين، والمقتولين في سوريا. تستخدم بيرن صعوبة الحصول على معلومات موثوقة 100% – صعوبة سببها الحكومة السورية نفسها بالطبع- كعذر لعدم تصديق بأن اي شيء من قصص الرعب القادمة من سوريا يحدث في الحقيقة. بل والذي يدعو للضحك، إنها تقتبس استفتاءا مشكوكاً فيه بشكل كبير (على كل حال، كيف يتم الاعتماد على استفتاء قادم من دولة بوليسية يتم فيها التجسس حتى على الانترنت؟) وهذا الاستفتاء يظهر بأن غالبية الشعب في سوريا تؤيد الأسد وتعتبر هذا الاستفتاء كدليل لادعاءتها.
إن مصدر المعلومات لدى ميديالنز لنقد الإعلام الغربي فيما يخص سوريا هو الهراء الذي تتفوه به بيرن (وهي من مؤيدي بوتين ولديها معلومات ضحلة بشكل مخيف وغير منطقية) ودريفس. يعتبر هذا ما يقود ميديالنز إلى التصريحات الساخرة كالتي جاءت في آخر “انذار” لهم حول التحيز في ادعاءات الاعلام الغربي عن سوريا : لا قيمة لتقديرات أعداد الضحايا في سوريا إلا إذا وثقنا بالتقارير التي لا أساس لها من “النشطاء” في سوريا. لاحظ الاقتباس التخويفي لكلمة “نشطاء”. من الواضح أن ميديالنز تأمل من خلال ذلك أن توحي بأن هؤلاء الأبطال في سوريا الذي يتظاهرون ويصارعون ضد الهجمة الوحشية المنظمة من تعذيب وأسلحة ثقيلة، وغيرها .. ماهم إلا منحازين بل وحتى إرهابيين (كما يدعي الأسد تماماً).
بالنسبة لعبارة “لا أساس لها”: هل تصر ميديالنز على أنه يجب عدم تصديق الشعب السوري ويجب الوثوق بحكومة الأسد؟ أم هل تقوم ميديالنز، كما بيرن، بالاستناد ضمناً إلى أن حكومة الأسد تمنع جميع الصحفيين غير المتعاملين مع الحكومة (عل سبيل المثال، حكومة الأسد تفوق بممارساتها القمعية للإعلام ما تقوم به حكومات الغرب بمقدار كبير، وهي حقيقة لا تذكرها ميديالنز) كعذر لعدم تصديق أي تقرير عن الضحايا؟
بغض النظر عما كان يدور في ذهن ميديالنز عند كتابة هذه الكلمات، ولكن أثر هذه الكلمات (إذا كان يوجد هناك من يصدقهم أو يسمع لهم) واضح: التقليل من مصداقية الثورة السورية في عيون من يثقون في ميديالنز والزيادة من مصداقية دعاية الأسد السوداء. هذا على ما يبدو ما يعنيه تفضيل “السلام” أو كون المرء “يساري” التوجه ، أي العمل على اطفاء الأمل الرائع الذي يقدم للعالم بواسطة ظاهرة الربيع العربي.
قام صحفيون، ومثقفون، ويساريون فلسطينيون بالتوقيع على رسالة مفتوحة تطالب النظام السوري بعدم استخدام القضية الفلسطينية كذريعة لأعمالهم المروعة. أتساءل كيف ترى ميديالنزهذه الرسالة الرائعة والمثيرة للإعجاب. مغزى الرسالة يقف تماماً ضد إصدارات ميديالنز. إن الرسالة الفلسطينية موجهة تماماً للمساعدة في إيقاف الأسد.
في الختام
لماذا الاهتمام بكل هذا؟ الجواب هو ما يلي:
لأن ميديالنز قامت بعمل جيد وهام في الماضي في فضح الموقف شديد الغموض من قبل وسائل الاعلام الكبرى في العديد من المسائل، كتبرير الهجوم على العراق (أي أنه لم يكن هنالك مبرر) والتغير الخطير في المناخ (والذي دائماً يهونه الإعلام ويقلل من شأنه)، الخ
لأن العديد من الناس العقلاء يتابعون ويثقون بميديالنز (كما كنت أنا لسنوات عديدة)
لأن ميديالنز للأسف أحياناً تجذب انتباها أكثر من النقاد الآخرين (الأقوى غالبا) لوسائل الإعلام الكبرى (مثلا، أت نيوزفريمز @NewsFrames و ديسدنت 93 “Dissident93”).
ولأنه ليس من المقبول لأي شخص مثلي ومثلهم يهتم (أو على الأقل يدعي أنه يهتم) بالنضال من أجل السلام، البيئة، التساوي، والديموقراطية، أن يظهر تحيزاً ممنهجاً ضد أي شخص يناضل من أجل قضية تدعمها أمريكا وبريطانيا. كما أنه ليس من المقبول عدم التصديق بأن سربرنيتشا شهدت إبادة جماعية أو الانضمام في صف الأسد في سوريا، فقط لأنك لا تثق بسياسات أمريكا وبريطانيا الخارجية.
أحد الأسباب المهمة لعدم قبول ذلك، والذي يتم تجاهله بشكل كامل من دريفس وميديالنز، هو أنه بالنسبة لهؤلاء السوريين الثائرين، روسيا هي القوة الامبريالية التي عليهم مقاومتها. يجب على اليساريين في الغرب أن يمتلكوا القدرة على فهم ذلك. روسيا تقوم بدعم الدكتاتور السوري، كما تدعم أمريكا الدكتاتوريين في الخليج وكما دعمت مبارك. ذلك لا يعني بأن النشطاء الشباب في سوريا يتحالفون مع الامبرياليات الأخرى كأمريكا وبريطانيا. لا يجب أن تكون هذه النقطة صعبة الفهم. ولكن دريفس وميديالنز يظهرون سذاجة مذهلة فيما يخص النوايا الروسية والصينية. سذاجة “تكمّل” شكوكهم المطلقة بنوايا بريطانيا وأمريكا. تقوم روسيا بجلب امدادات عسكرية لطرطوس على الساحل السوري، هل هم يفعلون ذلك لأنه جيد لصحتهم؟ أم لأنه يساعد في تحقيق العدل والسلام؟ أم أنهم يفعلون ذلك بسبب أهداف امبريالية وحشية بدون أي اكتراث لما يخلفه ذلك على هؤلاء الذين يناضلون من أجل حريتهم على الأرض. لا تظهر ميديالنز ومن معها أدنى اهتمام بذلك.
إن المصادر الضعيفة والانحياز الأيديولوجي تساهم في خنق الثورة السورية الحقيقية. لا أقصد هنا وسائل الإعلام الكبرى، إنما أقصد اليسارين الذي يتوقع منهم أفضل من ذلك.
علينا أن ندعم الربيع العربي، علينا فضح أكاذيب الأسد، وعدم التقليل من شأن المحاولات المستميتة لإيصال الحقيقة من هؤلاء الذين يحاول الأسد سحقهم. علينا أن نقول لميديالنز ومن معها، نرجوكم توقفوا، نرجو منكم إيقاف حملتكم الغريبة ضد أعظم أمل للديموقراطية لم يشهد العالم مثيلاً له لجيلٍ كامل.
المصدر