المنطقة ترسم مستقبلها بأيديها

سيدني مورنينغ هيرالد Sydney Morning Herald  – روث بولارد Ruth Pollard (مراسلة الشرق الأوسط) – 7 كانون الثاني (يناير) 2012

عند الوقوف وسط الفوضى العنيفة في ساحة التحرير في مصر، حيث انهالت الغازات المسيلة للدموع بغزارة ولجأ المتظاهرون المصابون إصابات شديدة إلى المشافي الميدانية، كان من السهل أن نشعر بأن الربيع العربي قد انحرف عن مساره الأصلي. فالديمقراطية على ما يبدو لا تحقق النهايات الهوليودية التي توقعها الكثيرون من هكذا سنة استثنائية.

قبل اثني عشر شهراً لم يكن ممكناً تصور مصر بدون حسني مبارك (30 سنة في السلطة)، ليبيا بدون معمر القذافي (42 سنة)، تونس بدون زين العابدين بن علي (23 سنة)، أو اليمن بدون علي عبدالله صالح (33 سنة).

منذ ذلك الحين، استطاع عبير الديمقراطية والنشوة التي رافقتها في أولى خطواتها إغوائنا وإلهامنا مع سقوط طاغية تلو الآخر في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. أدهشتنا شجاعة المتظاهرين والجنود الثائرين، وأطرقنا رؤوسنا استنكاراً للصور المخزية لأولئك العجائز الذين اختاروا ارتكاب المزيد من الجرائم الدموية ضد شعوبهم بدلاً من الرحيل بالحسنى، والآن نترقب وننتظر بفارغ الصبر سقوط زعيم آخر.

مصر في فوضى، ليبيا مقسّمة وتتعاظم الخسائر في الأرواح في سوريا يومياً إذ انتهى المجتمع الدولي إلى عجزه عن فعل أي شيء أمام وقوف السوريين العاديين في وجه نيران نظام بشار الأسد العائلي الذي حكم لعقود. توجد أحاديث حول منطقة عازلة وممرات آمنة للسوريين الذين يحاولون الفرار من عنف الممارسات القمعية للحكومة ولكن بطريقة لا تشبه التدخل الذي قاده الناتو في ليبيا والتي سمحت لقوات الثوار المفتقرين للخبرة من مواصلة الهجوم إلى طرابلس واستعادة بلدهم.

يضمن ذلك موقع سوريا الاستراتيجي في المنطقة وعلاقاتها بإيران وحزب الله في لبنان وحماس في غزة (حتى الآن)، بالإضافة إلى استخدام روسيا والصين لقرار الفيتو بشكل مستمر في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

هناك مخاوف حقيقية من أن أي تدخل قد يدفع هذه المنطقة المتفجرة أصلاً في حرب؛ فبنظرة خاطفة على الصحف اليومية الإسرائيلية ستعلم أنهم متلهفون للحرب مع إيران.

وفي هذه الأثناء تستمر إراقة الدماء في ثورة البحرين، البلد الخليجي الصغير، ويبقى مصير اليمن غامضاً.

بلد واحد فقط، تونس، يراه الخبراء قد أحرز تقدماً في مرحلة ما بعد الثورة. فقد عقدت انتخابات بمشاركة أحزاب متعددة وانتخبت رئيساً وهي في طريقها إلى إعداد دستور جديد.

ولكن سيكون من الخطأ الاعتقاد أن الربيع العربي قد توقف أو ضل طريقه، أو استحال إلى شتاء عربي قارس. فالديمقراطية تستغرق وقتاً.

ولكننا في العالم الغربي المتعجل لقطف الثمار عالفور، نريد حلاً لكل شيء، نريد أن نكون قادرين على تسليط الضوء على أمر ما وإعلان إنجازه فوراً.

إن فوضى ثورات الربيع العربي تشتت حس الانتظام لدينا وتختبر حاجتنا للنتائج الملموسة، فمن المفيد أن نفعل مثلما فعله غيرنا وننظر إلى مثال أقرب إلى بلدنا ]المراسلة والصحيفة من أستراليا[ لتوضيح معالم الطريق البطيء والشائك نحو الديمقراطية.

هل تذكّروا كيف سادت المشاعر المبهمة والمضطربة في السنوات القليلة الأولى بعد نهاية نظام سوهارتو Suharto  في أندونيسيا عام 1998؟

منذ ذلك الحين حكم أندونيسيا أربعة رؤساء: ب.ج. حبيبي B.J. Habibie ، عبد الرحمن وحيد Abdurrahman Wahid (الذي يعتبر أول رئيس منتخب ديمقراطياً فيها)، ميغاواتي سوكارنوبوتري Megawati Sukarnoputri ، وسسيلو بامبانغ يودهويونو Bambang Yudhoyono (منذ عام 2004).

في تلك الأثناء واجهت أندونيسيا عدة عقبات: صعود الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل (الجماعة الإسلامية) وحملتهم الإرهابية في بالي وجاكرتا، الحاجة إلى استئصال الفساد الذي سمّم معظم الخدمات الحكومية والجيش خلال حكم سوهارتو Suharto ، الفقر المدقع الذي يعيش فيه معظم الأندونيسيون، الضحايا والدمار غير الاعتياديين الناتجين عن تسونامي المحيط الهندي، وأخيراً دور الإسلام في العملية الديمقراطية.

رافقت كل تلك المسيرة خيبات أمل شديدة، كان أهمها التوقع السائد بأنه حالماً يتم التحرر من سجن التسلط، سيرتفع مستوى معيشة الإندونيسيين بشكل تلقائي.

لهذا، وللعديد من التحديات الأخرى، كان على أندونيسيا السير في طريق طويل، ولكن ليس هناك أدنى شك بأنها تنمو باتجاه ديمقراطية أكثر نضجاً، وفي هذا السياق، يقول ستيفن شيرلوك Stephen Sherlock مدير مركز معاهد الديمقراطية  Center for Democratic Institutionsفي جامعة استراليا الوطنية Australian National University:

“يلزمنا إرادة الصبر وإدراك أن التغيير سيتحقق خطوة تلو الأخرى، فهذه الثورات هي بداية لشيء جديد أكثر من كونها نهاية للأنظمة”.

أما بالنسبة لأندونيسيا فهي “لا تحظى بمدح كاف لما أنجزته خلال فترة قصيرة نسبياً” يقول شيرلوك. فأربعة عشر عاماً هي مجرد طرفة عين في مسيرة الديمقراطية.

يقوم المركز منذ آذار (مارس) 2011 بإجراء “حوار حول تفعيل الديقراطية” بين أندونيسيا ومصر. إن أوجه الشبه بين البلدين من حيث الحجم والدين والدور الأساسي الذي لعبته جيوشهما الخاصة في السياسات تنبئ أن تجربة أندونسيا ما بعد سوهارتو قد تكون تجربة غنية يمكن للمصريين الاستفادة منها لدى خروجهم من ظلال نظام مبارك.

على الرغم من ذلك، عندما نشاهد الصور القادمة من مصر، من السهل أن نشعر بالقلق من أن ثورتها ستطول. فعندما تدفق آلاف الناشطين إلى ميدان التحرير مجدداً في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأول (ديسمبر) بسبب فشل المجلس العسكري الحاكم بالإيفاء بوعوده بالتنحي لصالح حكم مدني، تخوف الكثيرون من أن تكون مصر قد استبدلت ديكتاتوراً بآخر ليس إلا.

وعلى الرغم من قمع الحكومة الوحشي لأولئك المحتجين في ساحة التحرير، صوت عشرات الملايين في أول انتخابات برلمانية ديمقراطية في البلد منذ 60 عاماً، والعديد منهم أقبل على الاقتراع للمرة الأولى في حياتهم.

ورغم من أن الصفوف أمام مراكز الاقتراع كانت طويلة، وكان هناك بعض المشكلات في أول جولتين من الانتخاب، إلا أنه لم تسجّل خروقات جدية ويتوقع أن تتم الجولة النهائية في بداية هذا الشهر بسلاسة.

إن سيطرة الأحزاب الإسلامية، كحزب الحرية والعدالة التابع الذي ينتمي إلى الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى الأحزاب السلفية الأكثر تحفظّاً قد أثارت المخاوف أيضاً. فالناشطون المصريون الذين جازفوا بحياتهم لفرض التغيير محقين بتخوفهم من تداعيات سيطرة الإسلاميين في البرلمان بالنسبة لحقوق النساء والمسيحيين الأقباط.

يعمد العديد من المعلقين والكتاب على انتهاج مبدأ الانتظار والمراقبة للإسلام السياسي الجديد في المنطقة. من ناحية أخرى كتب عيد حسين Ed Husain – وهو باحث كبير في دراسات الشرق الأوسط لدى مجلس العلاقات الخارجية – في مدونته (الشارع العربي) أنه لا يتوجب علينا التخوف من تقدم الإخوان المسلمين بقوله:

“إنهم بعيدون تماماً عن القاعدة ومناصري الجهاد العنفي، الإخوان براغماتيون للغاية، إنهم لا يسعون إلى الزج بمصر في نظام ثيوقراطي ديني يرجم فيه الزناة وتحجب النساء بالبرقع”.

“لقد تعهدوا ألا يفرضوا الحجاب أو يمنعوا البيكيني والكحول، فهم يعلمون حاجة مصر للسياح وأن مصريي ساحة التحرير العلمانيين قد يثوروا إذا أرغمت النساء على ارتداء الحجاب”.

مهما سيحدث عام 2012، فمن المهم الإقرار بالإنجازات العظيمة لعام 2011. فقد وجدت المنطقة صوتها وطالبت بأكثر مما قد تقدمه الديكتاتوريات البائدة.

حيث يصفها رامي خوري، وهو مدير مركز عصام فارس للسياسة العامة والعلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية في بيروت، بأنها “الإثني عشر شهراً الأكثر أهمية في تاريخ النظام السياسي العربي المعاصر منذ نشأته بعد الحرب العالمية الأولى”.

ويلخص حالة الالتباس الذي شعر به الكثيرون بعد مراقبة هذه الثورات وتداعياتها المبهمة: “إن الشعور في يوم ما بقرب التحول الديمقراطي يتحول بشكل مفاجئ في اليوم التالي إلى نكسة نحو حكم يسيطر عليه العسكر… ناشطون شبان وشابات يقودون المظاهرات في الشارع لتطيح بالدكتاتوريين، لكنهم لا يحصلون بالضرورة على دور فاعل في البرلمانات المنتخبة التي تتبعها”.

ولكن بدلاً من القلق حول الطبيعة المتقلبة لهذه البلدان ما بعد الثورة، يدعو خوري إلى الاحتفال بإنجازاتها. جاء ذلك في ما كتبه في (العربية) “إن ذلك يعني بأن مئات الملايين من العرب الذين كانوا يوماً سلبيين قد نبذوا خنوعهم وانخرطوا مجدداً في الحياة الوطنية الطبيعية”.

لقد أدت سنوات من الرأسمالية القائمة على المحسوبية، وسنوات من الفساد، والجشع، والإهمال إلى جعل اقتصادات هذه البلدان مشلولة كما هو الحال في (مصر)، أو مريضة كما هو الحال في (تونس) أو أحادية النغمة كما هو في (ليبيا / نفط).

لقد أدت نسبة البطالة المرتفعة، والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان إلى دفع معظم الناس إلى الشوارع للبدء بالثورة. والآن بعدما رأوا قدرة المظاهرات على تحقيق ما يريدون، لن يكون هناك  عودة إلى الوراء، وسيشهد على ذلك انتشار ظاهرة وسائل الإعلام الاجتماعية (تويتر، فيسبوك، يوتيوب).

ستنجز بلدان ما بعد الثورة، تونس ومصر وليبيا واليمن، برامج مكثفة للإصلاح الاقتصادي والتنمية تحت أنظار الملايين الذين سيراقبون ويدونون كل خطوة على تويتر ويقومون بالحملات على الفيسبوك ويبثون الأفلام على اليوتيوب.

يقول محلل الشرق الأوسط آفي ميلاميد Avi Melamed بأن أولئك الذين يقفون خلف صعود الإسلام السياسي يسقطون من حساباتهم آراء الشارع العربي في مواجهة الخطر المحدق بهم.

“الأناس الذين أحدثوا الربيع العربي ليسوا إسلاميين سياسيين وليس لديهم النية بأن يسمحوا للتغيير الجذري الذي قاموا به بأن يُختطف من قبل مجموعة أخرى”.

إن حقيقة أن تلك الجماعات المتمثلة بجماعة الإخوان المسلمين على سبيل المثال سيتوجب عليها الاعتماد على الغرب في تقديم المساعدات الاقتصادية لإعادة بلدهم على المسار الصحيح سيؤدي إلى جعل سلوكهم معتدلاً، وفق ما يقول.

ويحذر ميلاميد Melamed  بأنه إلى جانب هذا التدقيق الشديد سيكون هناك تكثيف لعملية الإصلاح وستقوم شبكات التواصل الاجتماعي بتسريع وتوسيع حملات إعادة الإعمار التاريخية الواسعة النطاق بطريقة لم نشهدها من قبل.

“من المهم أن نفهم بأن العالم العربي قد دخل عصراً جديداً كلياً وإلى حد كبير هو يبداً من الصفر ويعيد بناء ذاته بشكل كامل”.

“إنها عملية طويلة جداً، معقدة وخطيرة ومليئة بالتحديات على مدى سنوات وستواجه صدمات حتماً” يقول ميلاميد.

أما بالنسبة لإسرائيل فهذا يعني أنها ستضطرب لهذه التغييرات الهائلة كونها تواجه تحدياً في كيفية الاستجابة للربيع العربي.

“تستطيع إسرائيل الاستجابة بطريقتين على هذه الثورة العارمة التي تحدث بجوارها” يقول ميلاميد:

أن تراها تهديداً، أو أن تتقبّل النتائج الإيجابية الناجمة عن الثورة.

“هذه المنائج ستكون على المدى الطويل وليس على المدى القصير والمتوسط اللذان سيتسمان بازدياد تدهور محيط إسرائيل الاستراتيجي وحيث لن يصبح العالم العربي أكثر وداً تجاه إسرائيل”.

كما يقول إن إسرائيل في الوقت الحالي تركز على ما تعتبره تهديداً ناشئاً للتطرف الإسلامي الراديكالي في منطقة سيناء المصرية المجاورة لها، الوضع المبهم في سوريا، والمشكلة الإيرانية الملحّة دوماً.

يبدو أي اتفاق سلام مع الفلسطينيين بعيداً أكثر من أي وقت مضى فعلى ما يبدو لمّ يمس الربيع العربي بعد هذا الجزء من المنطقة الغارق في الاضطرابات.

في الحقيقة إنه الوقت المناسب، كما يطالب رامي خوري، للاستغناء عن مصطلح “الربيع العربي” تماماً. فما يحدث في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يمكن اعتباره أقرب إلى الانفجار الكبير في ميلاد وحياة دول وأمم ومواطنين”.

المصدر

Region takes future into its own hands

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s