خلال أكثر من 9 أشهر من الاحتجاجات ضد نظام الرئيس بشار الأسد، كان للنشطاء الاعلاميين الدور الأكبر في ضمان وصول أخبار ما يجري فعلاً إلى العالم الخارجي.
كتابة: كريستين مارلو Christine Marlow من دوما ونيك ميو Nick Meo من بيروت في 1 كانون الثاني 2012
على أرضية غرفة الاستجواب كان عارياً ويداه مربوطتان خلف ظهره وعيناه معصوبتان. استمع الشاب لخطوات ضابط المخابرات وهي تقترب ببطء، وصرخات أخيه تأتيه من الغرفة المجاورة. “أين هو جرذ الاعلام؟ أين علي؟” صرخ المحقق في إذنه. وعندها شعر بأحدهم يشبك شريط كهرباء بين أصابع قدميه ويدفعه باتجاه بركة ماء في الوقت الذي كان يرفع من شدة التيار الكهربائي استعداداً للصدمة الكهربائية القادمة.
اعتقل الشابان بعد العثور على مكبرات للصوت في منزلهما في دوما، أحد ضواحي دمشق المضطربة وقيل أن هذه المكبرات قد تستخدم في المظاهرات.
وقد تم احتجازهما في مقر المخابرات السياسية في العاصمة. ولمدة شهرين تعرض الشابان للتحقيق والتعذيب بشكل متناوب من أجل الإدلاء بمعلومات عن نشطاء من المعارضة يعملون في بلدتهم. ويقول الأخان أنه تم تركيز الأسئلة حول الأشخاص الذين يقومون بتوثيق عمليات القمع من قبل النظام لنشرها لوسائل الاعلام الخارجية.
خلال أكثر من 9 أشهر من الاحتجاجات ضد نظام الرئيس بشار الأسد التي بلغت ذروتها في بعض أكبر المظاهرات قبل يومين في الجمعة الأخيرة من السنة، كان للنشطاء الاعلاميين الدور الأكبر في ضمان وصول أخبار ما يجري فعلاً إلى العالم الخارجي.
إن عدد وحجم المظاهرات والهمجية التي تم قمعها بها شوهدت من قبل مئات الملايين من الأشخاص في الخارج وليس فقط في الدول العربية المجاورة.
أخيراً في الأسبوع الماضي، تم إدخال 66 مراقب من الجامعة العربية إلى سوريا بعد أن أُرغمت الحكومة السورية المترددة على هذا الأمر تفادياً لمزيدٍ من العقوبات القاسية من جيرانها. وقد تم الموافقة عليهم من قبل الأسد نفسه كمقامرة يائسة أخيرة لبقائه في السلطة.
بموجب خطة السلام التي تشرف عليها الجامعة العربية، فإن الحكومة يتوجب عليها سحب قواتها من مراكز البلدات، حيث يقدر عدد الضحايا حوالي 5000 مدنياً قضوا نحبهم بسبب أعمال القمع ضد المظاهرات.
ولكن في دوما هناك تقارير تشير إلى استخدام القوات للغاز المسيل للدموع والقنابل المسمارية لتفريق الاحتجاجات مما أسفر عن إصابات بشعة للبعض.
مرة أخرى، يستطيع العالم الخارجي معرفة أحداث يوم االجمعة فقط من خلال مقاطع الفيديو المصورة التي يرسلها نشطاء من كافة أنحاء سوريا بشكل غير نظامي. أشخاص من أمثال الأخوين من دوما واللذين التقتهما الصنداي تلغراف (The Sunday Telegraph) بعد ساعة فقط من اطلاق سراحهما.
كانا نحيلين وشاحبين وقد ظهرت دوائر سوداء تحت عينيهما وشعرهما كان قد بدأ بالنمو مجدداً بعد أن تم حلقه على الكامل في المعتقل. مباشرةً، قاما بالتواصل مع الشخص الذي حاولا جاهِدَين إخفاء هويته ومكان تواجده، وهو ناشط يدعى علي والذي قام لعدة أشهر بتصوير حملات القمع الأمنية وتقديم العديد من المقابلات على قنوات إخبارية أجنبية.
“إنهم يريدون معرفة كل شيء عنك يا علي” يقول أحد الأخوين ويتابع” لقد قاموا باستجوابنا بشكل منفرد ليحاولوا التلاعب بنا. لقد قالوا لي إن أخاك قد أخبرنا أنه يعرف أين هو علي وقد قال لنا كل شيء لذلك عليك أن تخبرنا أنت أيضاً.”
الصبي الآخر قال: “لقد تلقيت العديد من الصعقات الكهربائية بسببك! لكنني لم أخبرهم بشيء”.
قلقاً على أمنه يسألهم علي “كيف عرفوا بعلاقتي بكم؟ فأنا لم أزركما في منزلكما من قبل كما لم نقم بالتواصل هاتفياً؟”
أجاب الصبي” لقد كان لديهم الكثير من القصص عنك، وقد كانوا يحاولون ملاحقتك”.
مع منع الصحفيين الأجانب من التحرك بحرية في البلد فقد ظهرت صور الكاميرات المحمولة المهزوزة و محادثات برنامج سكايب على الانترنت لتصبح الوسائل الأهم لتفهم العالم حقيقة الأحداث، وقد لعبت دوراً كبيراً في بناء الضغط الخارجي على النظام.
ويقول النشطاء أن أعمالاً من هذا النوع تعتبر غير شرعية حيث يقول علي “العديد من الأصدقاء اعتقلوا وتعرضوا للتعذيب بسبب تحدثهم إلى أحد ما على الفيسبوك أو على سكايب وهذه تعتبر جريمة كبرى”.
عندما قرر علي أن تأخذ حياته هذا المنحى تاركاً وراءه زوجته وابنه أصبح مع ثلاثة من زملائه ليعشيوا ويعملوا بالسر ويسكنون في منزل آمن يتم تغييره كل شهرين لتفادي الاعتقال.
يقول الرجال إن بعض التفاصيل قد تصنع الفرق بين الحياة والموت مثل رمي أحذية لنساء وأطفال خارج المنزل مما يوحي بأن من يقطن المنزل هي عائلة. إضافة إلى وضع عوارض معدنية داخل الباب الأمامي مما قد يعطي وقتاُ ثميناً للهروب في حالات البحث المباغت.
على الأرض كان هناك أربع فرشات، وتلفاز قديم في الزاوية يبث قناة الجزيرة. كان هناك شباك صغير في الزاوية العليا يمر منه بصيص من الضوء الخارجي إضافة إلى لمبة عارية مدلاة من الأعلى. احتشد الرجال حول مدفأة كهربائية و كل منهم مشغول بحاسبه المحمول ويعمل بصمت في محادثات على سكايب مع وكالات إخبارية خارجية أو مع منسقين من المعارضة في مدن أخرى. كانوا لا يتوقفون إلا للأكل والصلاة.
يقول يحيى وهو في السابعة عشر من عمره وهو الأصغر بين الناشطين الأربعة “هذه هي حياتنا، نخرج فقط لنصور أو نعد التقارير أما باقي الوقت فإن هذه الغرفة والانترنت هما عالمنا”.
وكردّ فعل على انقطاع الكهرباء أو اختفاء إشارات الهواتف المحمولة بسبب قطع الاتصالات فقد قام النشطاء بشراء مولدات كهرباء وأجهزة اتصالات عبر الأقمار الصناعية يتم تهريبها إلى سوريا عن طريق لبنان وتركيا.
إنهم يلعبون لعبة القط والفأر مع أجهزة الأمن وهذا ما يعرضهم غالباً للخطر.
“هل ترين الجيش هناك؟ أنتِ أختي وأنت صماء وبكماء!” يهمس علي أثناء أخذ مراسلة الصنداي تلغراف ( (The Sunday Telegraph مغطاة الوجه ومتنكرة بالزي المحلي في جولة مسائية في مدينة دوما.
تقدم أحد الجنود إلى الأمام لإيقافه لكنه عدل عن الموضوع. “أترين؟ إنهم في كل مكان، في كل زاوية وفي كل شارع يراقبوننا” يقول علي محاولاً التملص في أحد الحارات الجانبية من نقاط التفتيش جانب جامع دوما الرئيسي. “إذا علموا من تكونين سوف يتم إلقاء القبض علي وتعذيبي ثم قتلي”.
زميل له وصف كيف اضطر إلى الإلقاء بنفسه من شباك الطابق الثاني لتفادي الاعتقال.
“كان فريق تلفزيوني يقوم ببثٍ مباشر لأحد المظاهرات المناهضة للنظام من موقعنا” يقول عمر ويتابع “بعد عدة أيام تمت مهاجمتنا من قبل قوات الأمن، رأيناهم يركضون أسفل الشارع باتجاه بنايتنا فلم يكن لدينا خيار غير القفز”.
“كسرت ساقي” يقول حسان أحد الأربع نشطاء، ويتابع “كان يوماً مؤلماً، لقد أخذوا كل كاميراتنا ومعداتنا”.
آخرون لم يحالفهم الحظ حيث يقول حسان “أحد أصدقائي ذهب ليرى عائلته ونام في سريره لليلة واحدة فقط ولكن في هذه الليلة تم اعتقاله.
لقد أُرغم على البوح بكل شيء وقد قاموا بتعذيبه بشكل فظيع، وعدوه بأن يطلقوا سراحه إذا أخبرهم بما يعرف. إنه الآن حر ولكننا لا نستطيع التحدث إليه. إنه خطير الآن فهاتفه مراقب ويتم متابعة تحركاته باستمرار.”
ويضيف علي “حالما يتم القبض على شخص واحد فإن دائرة معارفه كلها تتعرض للخطر، لذلك نحاول أن نعرف أقل قدر من المعلومات عن بعضنا. فأنا لا أريد معرفة الاسماء الحقيقية لأي شخص لأني إذا تعرضت للاعتقال قد لا يكون لدي الخيار إلا البوح بما أعرف.”
علامات التوتر التي يعاني منها نظام الأسد المحاصر تظهر حتى في وسط دمشق وفق شهادات جديدة لبعض السوريين الفارين إلى لبنان المجاور والذين تحدثوا إلى الصنداي تلغراف (The Sunday Telegraph) الأسبوع الماضي.
فقد نشرت الحكومة بعض البلطجية من قوات الأمن في شوارع العاصمة والتي كانت هادئة لفترة قريبة. يقول أحد الطلاب السوريين والذي عمره 28 عاماً ويعرف عن نفسه باسم عبدالله ” يمكنك أن تسمع أصوات إطلاق رصاص وأحياناً انفجار قنابل، الناس فعلاً مذعورة. إنهم يتبادلون فيما بينهم رسائل نصية لتخبر عن مكان اطلاق الرصاص.”
ويضيف “تستطيع رؤية الخوف في عيون الناس. فأنا أسكن في منطقة حديثة ومزدهرة وسط المدينة ونحن غير متعودين على هذه الأمور”.
متحدثاً من بيروت حيث وصل يوم الخمييس الماضي، يصف لنا كيف انتشرت نقاط التفتيش فجأة في جميع أنحاء دمشق بالإضافة إلى انتشار قوى الأمن وأحياناً حتى بعض الدبابات مما أدى إلى استياء السكان الأفضل حالاً والذين حتى فترة قريبة لم يتأثروا كثيراً بالأحداث الجارية.
وقال إن صدمته الكبرى كانت عند مصادفته لعناصر من الشبيحة خارج أحد المساجد الشهيرة في تنظيم كفرسوسة.
كان هناك حوالي ال50 من هؤلاء الشباب القبيحين بشعرهم القصير وعصيّهم الطويلة وكانو قد تجمعوا بسبب وجود بعض المتظاهرين هناك. بعد ذلك سمعت بأنهم هجموا على شيخ الجامع، كانوا يضربون أي شيء. أعضاء ممن كانوا يواظبون على الذهاب إلى جامعه أخبروني أنه عندما نقل الشيخ إلى المشفى حضر للتو طاقم من التلفزيون الوطني مع عناصر من المخابرات وطلبوا من الشيخ أن يقول أنه تم ضربه من قبل عصابات ارهابية، وهددوه بأنه سيتعرض للتعذيب إن لم يقل ذلك. لكن الشيخ رفض وقال أنه لا يخشى إلا من الله.
وتحدث مواطنون سوريون آخرون وصلوا حديثاً إلى بيروت عن نمط جديد من الخوف، وقالت أحد النساء أن الوضع ساء جداً خاصة بعد العمليتين التفجيريتين اللتان حدثتا قبيل عيد الميلاد وأسفرتا عن سقوط عشرات الضحايا وقد ادعى النظام بأن تنظيم القاعدة هو من قام بهاتين العمليتين الارهابيتين.
“تستطيع أن تشعر بالتوتر في الشوارع اليوم، لقد اختلفت الأوضاع عما سبق، لقد قل عدد الأشخاص المتواجدين في الشوارع بشكل ملحوظ عما سبق.”
ويقول شخص آخر إن ادعاء النظام بأن هاذين التفجيرين نفذهما إرهابيون وضعه في موقع السخرية العلنية “حتى سائق التاكسي كان يشتم الأسد على هذه التفجيرات” ويضيف ” الجميع هنا يعلم أن سائقي التاكاسي يتقاضون مرتباً من المخابرات”.
ذاق الدمشقيون طعم المظاهرات لأول مرة في الأسبوع الماضي، متجرئيين بوجود مسؤولي الجامعة العربية في البلد. ذهب الآلاف إلى ضواحي المدينة حيث تنظم مظاهرات ضخمة مثل دوما والميدان. إنهم ينبهون بعضهم بواسطة الرسائل النصية على الجوال أو الفيسبوك وتويتر في حال توفر الانترنت ويتبادلون إشاعات عن أماكن تواجد المراقبين العرب، حيث يأمل المتظاهرون بأن وجودهم سيردع الجيش عن فتح النار عليهم.
بالنسبة لبعض السوريين فإن تأييد الرئيس الأسد مازال يبدو قوياً “الكثير من السوريين مازالو يحبونه ولا يريدونه أن يستقيل” تقول أحد الشابات وتتابع “الكثير منا لا يأبه بالديمقراطية”.
أما أشخاص أمثال النشطاء الإعلاميين في دوما واللذين كرسوا حياتهم لإخبار العالم عن المظاهرات يصرون على أنهم سيتابعون عملهم هذا في ال2012 إلى أن يسقط النظام.
ولن يكون بإمكانهم أن يعودوا إلى عائلاتهم ومنازلهم الحقيقية، حيث يقول يحيى ” إذا عدنا سوف نتعرض للقتل وستذهب كل هذه الشهور سدى.”
المصدر