آلة التعذيب في سوريا
يذكر مراسل قناة تشانيل فور Channel 4 للشؤون الخارجية في تقرير له من سوريا الأدلة المتزايدة حول تورط الحكومة في تنفيذ أعمال وحشية واسعة النطاق ضد مواطينها
جوناثن ميلر
الغارديان، الثلاثاء 13 ديسمبر 2011
متظاهرين يحتجون ضد الأسد في كفرنبل أوائل الشهر الحالي (المصدر: روترز). كتب على اللافتة: نحن تقتل.. استمروا بالمشاهدة!!
6 كانون الأول كفرنبل المحتلة
بين رشقات الرشاشات الآلية، وهدير الإنفجارات – التي تشق نفحات الهواء الجبلي النضر – تشدّ السماء المرصعة بالنجوم فوق الحدود السورية انتباهك نحو عالمٍ بالغ الرقّة. إنها الثالثة صباحاً ومدينة تلكلخ، الواقعة على بعد أقل من ميلين باتجاه الشمال في أراضي الجمهورية العربية السورية، مازالت تتعرض لهجوم لا يتوقف أبداً ، وصلنا خبر عن أن سكانها رفضوا تسليم فرقة صغيرة من الجنود المنشقين الذين تحصنوا هناك، في محاولة للدخول إلى لبنان للانضمام إلى المتمردين.
في الجبال االتي تحيط بنا، حيث خاضت الجيوش الغابرة معاركها عبر آلاف السنين. في أسفل تلك الجبال، تقع مدينة تلكلخ المحاصرة، في تلك المدينة الصغيرة الواقعة في غرب محافظة حمص المضطربة، ينهمك الجيش السوري مرة أخرى في عمله، إنه يقتل مواطنيه.
عانت تلكلخ لعدة مرات أقصى أنواع القمع العنيف منذ اندلاع الثورة في آذار. يوماً ما، سوف تظهر تلكلخ بلا شك في قائمة الشرف للثورة. ولكن الآن، هذه المدينة التي يقطنها 80000 شخص ليست جديرة حتى بالإشارة لها في دليلي السياحي.
” نحن لا نقتل شعبنا” قال الرئيس بشار الأسد في لقاء له مع قناة أميركية الأسبوع الماضي. ” لا يوجد حكومة في العالم تقتل شعبها إلا إذا كان من يقودها مجنون”.
هؤلاء الذين تجرؤوا على معارضة الأسد لا يظنون بأن قائدهم مجنون، ولكنه قد يكون مسعوراً. إنهم اليوم يرون ذلك مباشرة من خلال تصرفاته. لقد تعبوا من الكذب، وعانوا الكثير.
بين نهاية تشرين الثاني/أكتوبر وبداية كانون الأول/ديسمبر ، كنت واحداً من اثنين فقط من المراسلين الأجانب الذين تم منحهم تأشيرة دخول صحفية بشكل رسمي إلى دولة القمع البوليسية هذه. قضيت تسعة أيام في دمشق، عاصمة جمهورية الخوف الأسدية بصفتي ضيفاً على الحكومة.
هناك، واجهت نظام التحدي الغاضب، نظام قوي وحاسم في قراراته ولا يقبل تقديم الاعتذارات. في وقت مبكر من الربيع العربي هذا، قضيت ستة أسابيع في ليبيا. كانت أصداء عبادة الفرد الخاصة بالقذافي تحيط بالأسد، إلا أن أجهزة سوريا السياسية والأمنية أكبر وأكثر سوءاً من أي شيء استطاع القذافي بناءه. لا أقصد أن أستخف بمعاناة الليبين، لكن التعداد السكاني في سوريا يعادل أربع أضعاف ما في ليبيا وحجم التهديد المحدق بشعبها يفوق التهديد الليبي بعشر مرات.
على مدى الأيام التسعة تلك، قمت بإجراء مقابلات مع ثلاثة وزراء، وعقيد في الجيش ومحافظ مدينة متمردة. لم أسمع منهم سوى نفيهم أن تكون قوات الأمن قد أطلقت النار، أو قصفت أو قامت بعمليات تعذيب للمدنيين. فالحكومة هنا تلقي باللوم على “عصابات مسلحة” و”ارهابيين” وتعمل على إثارة المخاوف من شبح المتمردين الإسلاميين، تماماً كما فعل رجالات القذافي. فهم مثلهم، يرون أن ما يحدث هو مؤامرات مدعومة من الغرب. يتحدثون عن حرب إعلامية حيث تبث القنوات الفضائية العربية والغربية “أكاذيب” و”تسجيلات مصورة مفبركة”.
سُئلت من قبل الدكتورة بثينة – المستشارة الرئاسية والوزيرة البارزة في الحكومة – وقد بدا عليها شيء من الارتياب: “هل تعتقدون حقاً أننا نقبل بالتعذيب؟”، عندما واجهتها بالادعاءات التي لا تقبل الشك، والتي كان آخرها موثق بشكل مفصل للغاية من قبل لجنة تقصي الحقائق المستقلة التابعة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. كان ردها أن “سوريا ليس لديها سياسة للتعذيب على الإطلاق، ليس لدينا غوانتانامو أو أبو غريب، وهذا أمر غير مقبول على الاطلاق من قبلنا، قطعاً غيرمقبول”.
في الوقت نفسه، عبّر وزراء الحكومة عن تذمرهم من الأجندات الخارجية التي تحاك ضد سوريا، والتي غضت الطرف عن التجاوزات الهمجية التي قامت بها “العصابات المسلحة” التي قامت، حسب زعمهم، بعمليات التعذيب والقتل لألف وأربعمائة جندي سوري بالإضافة إلى تقطيع الأوصال في العديد من الحالات.
سوريا هي أحد الأطراف الموقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب لعام 1984. تعرف هذه الاتفاقية “التعذيب” بأنه أي فعل يرتكب عمداً، ويسبب ألماً أو معاناة شديدين، جسدية كانت أم عقلية، بقصد الحصول على المعلومات أو اعتراف أومعاقبة فرد لشيء ارتكبه هو أو أي شخص آخر أو يشتبه في ارتكابه له.
يقول نديم حوري، نائب رئيس منظمة هيومان رايتس ووتش Human Rights Watch في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومقرها بيروت، والذي كان قد حصل على شهادات للمئات من حالات التعذيب التي جرت في سوريا “إن الأمر منتشر”، “ففي حال تم اعتقالك فعلى الأرجح أنك ستتعرض لمعاملة سيئة وعلى الأغلب ستتعرض للتعذيب. فنحن لدينا معلومات عن ما لا يقل عن 105 حالة أعيد بها أشخاص من عهدة الأجهزة الامنية إلى ذويهم بأكياس الجثث، وتلك فقط الحالات التي نعلم بها”. ويضيف السيد حوري بأن لديه أدلة على اعتقال عشرات الآلاف من السوريين بصورة تعسفية على مدى أشهر.
“لقد قمنا كذلك بتوثيق ما اسميه “التعذيب العبثي” إن كان هناك يوجد هكذا مصطلح. حيث يستمرون بالتعذيب حتى بعد حصولهم على المعلومات المطلوبة بهدف تلقينك درساً. أعتقد بأن هذا الدرس هو أنه “يتوجب عليك أن تخشانا”.
لكن الأمر الذي رأيته والذي يثير الدهشة أنه على الرغم من التعذيب، لم تعد الناس تخاف، لقد تحطم جدار الخوف لديهم”.
قطعنا مسافة قصيرة بسيارتنا بعيداً عن الحدود، على طول المنعطفات الجبلية، قطعنا نقاط التفتيش اللبنانية حيث يتواجد جنود ودودون يرتجفون، كان يقع مخبأ آمن لسوريين. لم تكن هناك كهرباء. المكان مكتظٌ باللاجئين، هناك أطفال نائمون في كل مكان. في إحدى غرف الطابق العلوي، بجانب موقد حطب صغير، التقيت بسائق جرار سابق في الخمسينات من عمره من تلكلخ، كان يجفل من الألم الذي يعصف بجسده المتعب، جسده ممدد على فراش مُدَّ على أرض إسمنتية. استقام في جلسته واستند على كومة من الوسائد وأشعل سيجارة، لقد كان ممتناً لتمكنه من الهروب إلى لبنان، إلا أنه يتوق إلى العودة إلى وطنه، ولكنه لا يستطيع على الرغم من ذلك، فساقه اليمنى الآن مصابة بالتهاب حاد من تحت الركبة، وبالكاد يستطيع الحركة، ولم يتمكن من الحصول سوى على الإسعافات الطبية الأولية.
قال لي، قبل شروق الشمس صباح أحد الأيام، عندما كانت القوات تحاصر بلدته، تم اطلاق النار عليه مرتين من قبل “الشبيحة”، وهي الميليشيات الموالية للأسد. بما أنه كان غير قادر على الهرب، تم اعتقاله، ضُرب وسيق إلى حمص مع معتقلين آخرين كثر بينما ظلوا يتعرضون للضرب على طول الطريق. قال أن خلال الأسابيع القليلة اللاحقة، تركت جراحه لتتقيح بينما ظل يتعرض لتعذيب شديد جداً لدرجة أن روايته لما حصل له جعلتنا نحن الذين نستمع إليه مذهولين ونشعر بالغثيان. خلال الفترة التي قضاها في الاعتقال، تم تمريره، كما قال، إلى خمسة فروع تابعة لشرطة الأسد السرية السادية، المخابرات.
على ضوء شمعة متلألئة، أخبرني بالتفاصيل البشعة عن الضرب الذي تلقاه بالهراوات والكابلات الكهربائية على باطن قدميه (تقنية تسمى “الفلقة” ).
تم تعليقه من ركبتيه ، ووضعه داخل إطار مطاطي ملتف حوله ومدلى من السقف. قيدت يداه وقدماه وعلق رأساً على عقب لساعات – أسلوب “بساط الريح” السيء السمعة المستخدم من قبل المخابرات. ثم علق من معصميه (“الشبح”) ، وجُلِدَ وعُذِبَ بالسياط والعصي الكهربائية المخصصة لنخس الماشية.
عندما لم يكن يتعرض للتعذيب، كان يتم حشره داخل زنزانات مع ما يصل الى 80 شخصاً، من دون مكان للجلوس أو النوم، على حد قوله. يقفون جوعى، عراة وخائفين في الظلام، بقذارتهم، بدون طعام، بدون ماء للغسيل. تذكر الرائحة الكريهة والاستماع إلى صراخ الآخرين الذي يتردد صداه في قبو اعتقالهم القذر. وتحدث عن الأغذية العفنة التي كانت ترمى لهم، وعن نحيب الأطفال.
ويضيف قائلاً: ” لقد رأيت ما لا يقل عن 200 طفل – بعضهم كان بسن العاشرة”. وكان هناك كبار السن من الرجال في الثمانينات من عمرهم. شاهدت واحداً يتم خلع أسنانه بكماشة”.
على ما بيدو عامل العمر لا اعتبار له في غرف التعذيب في سوريا. لكن بالنسبة للمدنيين الذين ثاروا ضد الأسد، فقد كان تعذيب الأطفال – وموتهم أثناء الاحتجاز- أمراً يبعث على الاشمئزاز بشكل خاص.
تحدث سائق الجرار عن الاستجوابات المتكررة، والاعترافات القسرية بجرائم لم يسمع بها من قبل، تحدث عن السكاكين وأصابع الآخرين التي قطعت، عن كماشات وحبال وأسلاك، عن الماء المغلي، والحرق بالسجائر وقلع الأظافر – وأسوأ من ذلك: مثاقب كهربائية. لقد ذكر أنه كان هناك اعتداءات جنسية، ولكن هذا كان كل ما قاله عن ذلك.
بعد الانتهاء من التحقيق معه في احدى الفروع، يتم نقله إلى فرع آخر من فروع المخابرات ليبدأ كابوسه من جديد. ونتيجة لاستمرار الضرب يوم بعد يوم، ظهر لحم ساقيه و راحة قدميه و أصيبتا بالتهاب. حينها أجبروه على “السير على صخور ملحية”. قال لي متحدثاً بوضوح، وبطء: “عندما تنزف والملح يدخل في لحمك، فإنك تتألم أكثر بكثير من الضرب. كنت أجبر على السير مرات ومرات لأشعر بمزيد من الألم “.
أشعل سيجارة أخرى، ثم قال: “على الرغم من أننا نعاني من التعذيب، نحن لسنا خائفين بعد الآن. لم يعد يوجد خوف. لقد اعتدنا على الخوف من النظام، لكن لم يعد هناك مكان للخوف الآن”.
إذا كان القصد من التعذيب هو الإرهاب، فهو في الاشهر الأخيرة كان له تأثير معاكس. يبدو أن كل فعل من الأفعال الوحشية، يعزز الشعور المتنامي بالغضب والظلم ويثير التمرد أكثر من أي وقت مضى.
قابلت ناجين آخرين في بيوت آمنة اخرى وكانت كل رواية تؤكد الاخرى. صيدلي، اختطف على يد ميليشيا من المستشفى الذي كان قد أسعف إليه بعدما أطلق عليه النار. كانت تجربة تعرضه للتعذيب مشابهة في السوء لتجربة سائق الجرار. صبي عمره 16 عاماً، تعرض للضرب والصعق بالكهرباء لدرجة أنه ظن بأنه سيموت، ثم هدد بالاعدام. والآن هو يعاني من مشاكل في النوم .
رجلٌ آخر، وضع في ما أسماه “التابوت الكهربائي” – الذي يجبر فيه المعتقل على الاستلقاء داخل صندوق خشبي، فوق لوحتين معدنيتين يتم تمرير التيار الكهربائي من خلالها. رجل عمره 73 عاماً جلد بلا رحمة، صعق بالكهرباء وضرب بسبب نشاطات ابنه المعارض المعروف في الخارج. تحدث عن مئات المعتقلين حشرت في زنزانات، عراة ومهانون. تحدث لاجئ آخر عن جهاز أسماه “الكرسي الألماني”، هذه التسمية، على ما يبدو، لأنه اخترع من قبل جهاز أمن الدولة الألماني النازي. يُحَني فيه المعتقل الى الوراء حتى يشعر بأن عموده الفقري سوف يكسر.
ما تبين كان نمط من الوحشية المنهجية، وحلقة من الارهاب مر من خلالها الآلاف من الناس في الاشهر الاخيرة. هذه هي آلة التعذيب في سوريا. تعذيب على نطاق واسع.
بينما كنا في سوريا، عشنا في فقاعة، لم نر شيئاً من الوحشية المتطرفة والقتل الذي يشتهر به النظام السوري. أخذونا إلى مسيرات حاشدة، حيث الآلاف من المؤيدين المسعورين يقبلون صوراً لبشار الاسد أمام كاميراتنا ويرددون شعارات تحدٍ لعقوبات جامعة الدول العربية.
لمدة يومين لم نمنح تصريحاً بالتصوير – وربما ليس من قبيل المصادفة أن واحداً من تلك الأيام كان يوم الجمعة، وهو اليوم الذي لا بد أن تخرج به مئات من المظاهرات المناهضة للحكومة في جميع أنحاء البلاد بعد صلاة الظهر. أحد الأيام، في حين كنا نصور بشكل نظامي في أحد الشوارع، وعلى الرغم من حصولنا على تصاريح رسمية مختومة من وزارة الإعلام بنسرها – الثنائي الرؤوس- تم توقيف مرافقنا المرسل من قبل الحكومة من قبل رجال المخابرات. لم نعرف ابداً لماذا هذا الموقع بالذات كان حساساً للغاية. عاد المرافق إلينا بعد 15 دقيقة، متأثراً بشكل واضح. قال “لا يمكننا التصويرهنا”، “دعونا نذهب”.
على الرغم من طلباتنا اليومية، لم نحصل على تصاريح الدخول إلى مدن مثل حمص وحماة التي كان ساكنيهما قد نشروا أشرطة الفيديو على اليوتيوب تظهر دبابات تطلق النار عشوائياً على المناطق الآهلة بالسكان. أخيراً، عندما سافرنا إلى درعا، المدينة الجنوبية التي كانت مهداً لهذه الانتفاضة، بوجود أربع مرافقين من قبل الحكومة، وعندما حاولنا التحدث الى أي شخص، وجدنا أنفسنا محاطين بالمخابرات الذين أوعزوا لمن كنا نقابلهم أن يقولوا لنا أن كل شيء طبيعي. كان أمراً خانقاً جداً.
على الرغم من هذا، اقترب عدد مذهل من الشعب السوري منا، ببراعة -وغالباً بارتعاش- ليقولوا لنا ان كل شيء لم يكن كما يظهر، وأنهم يحقدون على النظام وأنه هناك الآلاف مثلهم. لمس رجل يدي عندما وقفت في وسط مظاهرة حاشدة في وسط دمشق، محاطاً تماماً بصخب ورايات مؤيدي النظام. عندما نظرت حولي ، التقت عيناه بعيني وقال ببساطة كلمة “بشار”، وهو يمرر سبابته فوق رقبته، قبل أن يختفي في حشد الموالين. لو شوهد وهو يفعل هذا فذلك كما لو أنه وقع على شهادة وفاته.
طريق يلتف صاعداً بين الصخور الجرداء لجبل قاسيون المطل على دمشق والذي تستطيع من على ارتفاع 1000 م في أي يوم مشرق، أن ترى إطلالة بانورامية رائعة على أنحاء العاصمة. من نقطة الرصد هذه، وإذا كنت تعرف ما الذي تبحث عنه، فمن الممكن تحديد ما لا يقل عن سبعة مواقع حيث يمكنك القول وأنت شبه متأكد أن الناس يتعرضون للتعذيب في أي لحظة. التفكير بهذا الأمر يفسد المنظر.
كل واحد من الفروع الرئيسية الأربعة للمخابرات – الاستخبارات العسكرية، والاستخبارات الجوية، ومديرية الأمن السياسي ومديرية الأمن العام – لها مقرها الرئيسي في المدينة. ولكل منها فروع: الأمن العام لديه ثلاثة – بما في ذلك فرع فلسطين المخيف- والاستخبارات العسكرية لديها عدة فروع، من بينها الفرع 235 السيئ السمعة. لا أحد يعرف ما الذي يعنيه الرقم.
كل من هذه الفروع هي إمبراطورية داخل إمبراطورية ، بمكاتبها المنتشرة على طول وعرض سوريا. منذ بدأ التمرد، لم تقتصر مرافق الاحتجاز على مباني المخابرات المعروفة، استخدمت المخابرات ملاعب كرة القدم في العديد من المدن لاعتقال وتعذيب المشتبه بهم. في المدن الصغيرة والقرى ساحات الاسواق كانت تفي بالغرض. ويعتقد أن فروع الاستخبارات الأربع الرئيسية أنها تخضع مباشرة لسيطرة الرئيس.
في حين أن الأسد يواجه عصيان مسلح متصاعد من قبل أولئك الذين ملوا من الحياة تحت رقابة أجهزته في عالم الأخ الأكبر، فإن السلاح الأقوى في يد المعارضة هو الهاتف المحمول. لقطات ذات جودة منخفضة من أفعال القمع العنيف – وعن الذين تعرضوا للتعذيب وقتلوا على يد النظام- تم تحميلها وبثها إلى ملايين المشاهدين حول العالم.
مشاهدة هذه الأفلام مؤلمة. في واحد منها، أم تبكي على جثة ابنها البالغ 27 عاماً من العمر والذي تم إرساله إلى بيته ميتاً، بعد أسبوع من الاحتجاز. ولديه علامات وكدمات في جميع أنحاء جسده، وهناك جرح من رصاصة. “اللهم انتقم من جميع الطغاة”، المرأة تنتحب. “يا إلهي، انتقم من كل ظالم، كل ظالم، بشار ومساعديه”.
سببت لقطات من هذا القبيل ضرر لا يمكن اصلاحه لنظام الأسد. لكن وزراء في الحكومة تحدثت معهم عن هذه الأفلام رفضوا بشدة هذه المقاطع على أنها مزورة أو تم تصويرها في مكان آخر في وقت سابق. ومع ذلك، إذا تم التحقق من مصداقيتها، فإن مثل تلك اللقطات تقدم أدلة هامة على جرائم النظام المتهم الآن من قبل لجنة تحقيق مجلس حقوق الانسان في الامم المتحدة. الحجم الهائل لهذه المواد- ما يزيد عن 30000 من المقاطع المصورة قد تم الآن نشرها على الانترنت من قبل نشطاء المعارضة السورية– دفع القناة الرابعة لإنتاج برنامج تحقيق وثائقي.
وظفنا فريق من الخبراء في الطب الشرعي لتفحص اللقطات المصورة، وإخضاعها لشروط التحقق الصارمة. وعندما كان ذلك ممكناً، تحققنا من مصادر المواد بشكل مستقل، بحثنا عن خيوط زمنية محددة، ثم درسنا تفاصيل الموقع مع السوريين من تلك الأماكن. حوادث محددة تم فحصها والتأكد منها عبرمصادر مستقلة. أعضاء سابقين في المنفى من قوات الأمن السورية تحققوا من المركبات، والزي الرسمي والشارات العسكرية. هناك عدد متزايد من الأفلام التي تظهر جنوداً يرتكبون أعمال التعذيب، ويصورون بعضهم البعض بشكل علني. إنها مخيفة: لا أحد منهم يبدو مكترثاً لكشف هويته.
تم الاستماع بعناية الى اللهجات. ولقد تم فحص جميع الأفلام المصورة والمحملة على الانتريت للتطابق والموثوقية. كما طلبنا استشارة طبيب مختص من جمعية الحرية من التعذيب Freedom from Torture الخيرية. كما وظفنا أخصائياً في علم الطب الشرعي، الأستاذ ديريك باوندر Derrick Pounder، لفحص الأدلة من التسجيلات المصورة البشعة لأولئك الذين يزعم أقاربهم أنهم قتلوا تحت التعذيب.
النتيجة هي خلاصة بشعة من مواد الفيديو الموثوقة التي نعتقد أنها تقدم دليلاً ظاهراً ودامغاً بارتكاب جرائم ضد الانسانية.
يقول باوندر Pounder شارحاً لي هذه المواد، بأن الأفلام تظهر”أدلة دامغة على العنف الجسدي الواضح ، والخنق والقتل واطلاق النار والاعتداءات بشكل عام، وهناك نمطاً مميزاً للغاية… من العنف الجسدي في شكله المتطرف”.ويضيف بأن ذلك “يوحي أن تلك الأعمال كانت تحدث على نطاق واسع، وتشير إلى أن ماجرى كان يحدث من دون خشية أي مسائلة قانونية… لا يوجد أي عقاب بالنسبة لهم حتى لو كان هناك دليل واضح على الاعتداء”. لا يوجد أي اكتراث لاتفاقية الأمم المتحدة المناهضة التعذيب.
ذات مساء، عندما كنت أجري المقابلات مع ضحايا التعذيب في منزل سوري آمن في لبنان، حدثت ضجة كبيرة. أدخل أربع أشخاص للمنزل منشقاً من الجيش السوري، الذي قاد المقاومة في حي بابا عمرو في حمص– المدينة السورية التي أطلق عليها اسم “عاصمة للثورة”-. أطلق عليه النار تسع مرات ونجا بطريقة ما، لكنه كان يتألم ألماً فظيعاً. كان قد تم تهريبه مؤخراً الى لبنان من تلكلخ.
في صباح اليوم التالي، كان في صحة أفضل للتحدث باختصار. كان لقائي الأول مع عضو سابقٍ في قوات الأمن السورية. قال لي أن الاعتقال الجماعي والتعذيب الشديد كان أمراً عادياً.
“عندما كان الجيش ينفذ حملة اعتقالات، يبدأ الجنود بتعذيب المعتقل حتى وصول الأجهزة الأمنية. ثم يأخذونه إلى فرع الأمن العسكري، وهو ما يشبه المسلخ البشري. معظم الاشخاص الذين تم اقتيادهم هناك على قيد الحياة يتم اخراجهم قتلى”.
ذكر بأنه بينما كان قائداً لفصيلة في الجيش، قام بمرافقة ضباطاً من منزل إلى منزل لدى بحثهم عن مطلوبين في مدينة حمص. “عندما لا يجدون من يبحثون عنه، فهم إما يغتصبون النساء، أو يقتلون الأطفال”.
ذكر أسماء الضباط المسؤولين والضابط الذي كأن يعطيه الأوامر مباشرة. حيث قال أنهم كانوا جميعاً من الطائفة العلوية – وأنهم ينتمون إلى الطائفة الشيعية البارزة في سوريا والتي ينتمي إليها الرئيس – كما تحدث عن أنه عندما فشلوا في العثور على أحد الرجال الموجودين على قائمة المطلوبين، قاموا بأخذ ابنه، وقطعوا رأسه وعلقوه فوق باب منزل العائلة. كان يسرد القصة بطريقة متعثرة كما لو انه يعاني من أجل الحصول على الكلمات، وبينما كان يفعل ذلك، تدحرجت الدموع على وجهه. ولكنه كان مجروحاً بقدر كبير، لم يستطع مسح دموعه. قال لي، أن هذا ما دفعه للانشقاق.
قلت له أن الأمم المتحدة قد رفعت تقديراتها لعدد الوفيات إلى 4000 مدني قتلوا منذ آذار/مارس. (هذا الأسبوع تم رفع العدد إلى 5000). فنظر لي نظرة عدم تصديق. وقال أن العدد أعلى بكثير.
بعد أربعة عقود من حكم الأسد، رجل واحد يتحمل مسؤولية هذا القمع المتعطش للدماء: القائد العام للجيش وللقوات المسلحة ورئيس الاستخبارات السورية – رئيس الجمهورية نفسه.
سألت نديم حوري، إذا كان بشار الأسد يحاول وقف كل هذا، وإن بإمكانه فعل ذلك، وكان جوابه: “لا أعرف الجواب على ذلك”. “لكنني أعرف أنه لم يحاول وقفها أبداً.”
المصدر:
The Guardian