سوريا تبلغ سن الرشد
ديفيد كينر – 8 كانون أول 2011
كل يوم، وعلى مدار 268 يوماً، نرى نفس المقاطع المصورة: سوريون يخرجون من الخفاء والغموض، ويملؤون الأزقة التي اعتادت الصمت. لقد أصبحوا محترفين بفن التظاهر، حيث يستخدمون اللافتات المزخرفة والشموع وينادون بنهاية نظام الأسد، ثم تتصاعد مطالبهم حتى إعدام الرئيس. أعداد القتلى تزداد بشكل مطّرد— حيث أنها وصلت إلى ما يزيد عن 4000 قتيل، حسب آخر إحصاءات الأمم المتحدة.
ولكن السؤال الذي يثير الجدل هو: من يمثل المتظاهرين الموجودين على الأرض؟ الشهر الماضي تعرض وفد من المعارضة السورية في القاهرة في حادثة لا تنسى للرشق بالبيض من قبل زملاء لهم من المعارضين الرافضين لرغبة هذه المجموعة الظاهرة بمحاورة نظام الأسد. ولكن هوية المتظاهرين ليست لغزاً: هم نتاج انفجار ديموغرافي غير عادي في سوريا أدى إلى انتشار الفقر والحرمان في مناطق واسعة في البلاد. وهم غاضبون جداً.
منذ الستينات وحتى بداية التسعينات تمتعت سوريا بأحد أعلى معدلات النمو السكاني في العالم. فقد تضاعف عدد السكان من 5.3 مليون في عام 1963 إلى 10.6 مليون في عام 1986، ثم ازداد أكثر من الضعف في ربع القرن الأخير ليصبح 23 مليون نسمة تقريباً. وقبل أن تبدأ معدّلات الولادة بالانخفاض في منتصف الثمانينات، كان هناك بلدان فقط يمتلكان معدلات خصوبة أعلى وهما اليمن ورواندا بحسب مقالة عنوانها “تحول معدلات الخصوبة في سوريا” للكاتب يوسف كرباج Youssef Courbage، وهو باحث في المعهد الوطني لدراسات التوزع السكاني في باريس.
في ذروة الانفجار الديموغرافي في سوريا، ولد 44 شخص لكل ألف سوري، وذلك يفوق بشكل كبير النمو السكاني في البلد الجار لبنان (30 ولادة لكل ألف شخص)، كما يتجاوز النمو السكاني في الولايات المتحدة (16 ولادة لكل 1000 شخص) إلى حدٍّ بعيد، وذلك بحسب بيانات البنك الدولي. لقد كان النمو السكاني مركزاً بشكل غير متناسب في الأرياف مما أدى إلى تكون طبقة متضخمة من المحرومين في سوريا الجديدة.
لقد تراجعت معدلات الولادة في سوريا في السنوات الأخيرة، ولكنها لاتزال مساوية لنظيراتها في الدول الثائرة الأخرى في العالم العربي. حيث بلغ معدل الولادة لعام 2008 في سوريا 24 وليد لكل 1000 سوري – وهذا يعادل معدلات مصر ويفوق معدلات تونس التي بلغت 18 وليد لكل 1000 شخص.
لو تم تحديد المناطق السورية التي سجلت فيها معدلات النمو الأعلى على خريطة ما، لتتطابقت إلى حد كبير مع المناطق التي تشهد أكثر الاضطرابات في سوريا. إنها ثورة الريف المُهمَل من الجنوب في درعا –حيث بدأت الاحتجاجات تكتسب زخماً– إلى الشرق في دير الزور. كما أنها ثورة مدن عانت من الاضطهاد لزمن طويل مثل حماه، وضواحي دمشق وحمص المهمشة – الأحياء التي تأوي الكثير من المهاجرين من الريف.
تتحمل الحكومة السورية ولو بشكل جزئي المسؤولية عن معدلات الولادة الخارجة عن السيطرة. فمنذ العام 1956 قال يوسف حلباوي Youssed Helbaoui –وهو رئيس قسم التحليل الاقتصادي في هيئة التخطيط السورية– “ليس هناك داعٍ لاتباع سياسة تحديد النسل في هذه البلاد. لا يوجد من يتبع نظرية توماس مالثوس Thomas Malthus بيننا.”
كما أن الرئيس حافظ الأسد، الذي حكم أثناء فترة التفجر السكاني في الثمانينات، اتبع نفس سياسات الرؤساء السابقين. فكما ذكر كرباج حدّ الأسد الأب من توفر موانع الحمل وجادل بأن معدلات النمو العالية “حفّزت تطورات اجتماعية-اقتصادية ملائمة.” وحتى عام 1987 كانت الحكومة تشجع الإنجاب وذلك بإعطاء مكافآت من أوسمة وهدايا مادية بسيطة للعائلات التي تنجب أكثر من عشرة أطفال.
النتيجة أن سوريا في زمن ثورات الشباب هي الدولة ذات السكان الأكثر شباباً في العالم العربي. فمنذ منتصف الستينات وحتى التسعينات بقيت نسبة من هم تحت سن الخامسة عشرة من السوريين مستقرة مشكّلةً نصف المجتمع السوري تقريباً، بينما تراجعت نسبة من هم فوق سن السبعين إلى 3%. وحتى اليوم وبعد انخفاض معدلات الولادة يُعتقد بأن 60% من السوريين هم تحت سن العشرين.
لقد غير هذا التضخم الديموغرافي المتواصل على مدى فترة طويلة البلد الذي حكمته عائلة الأسد لأكثر من 60 عاماً بشكل جوهري. فعند نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945 عندما كان حافظ الأسد لايزال طالباً في المدرسة، كانت دمشق مدينة خاملة يسكنها 300,000 نسمة. وبعد أن سيطر على الحكم في عام 1970، تجاوز عدد سكان دمشق 800,000، وفي أواخر الثمانينات ازداد العدد بشكل سريع إلى 3000,000، وفقاً لكتاب “الأسد: الصراع على الشرق الأوسط” لباتريك سيل Patrick Seale.
وقد ترافق هذا التحول الديموغرافي مع نهوض ما يسميه المفكر السوري صادق العظم بـ”المركب التجاري-العسكري.” يقول سيل أنه عندما سيطر حزب البعث على السلطة بانقلابٍ عسكري في العام 1963، كان هناك فقط 55 “مليونيراً” بالليرة السورية في كل البلاد. وازداد هذا الرقم ليصل إلى 1,000 مليونير في عام 1973، ثم 3,500 في عام 1976 — 10% منهم كانت ثروتهم تبلغ 100 مليون ليرة سورية (حوالي 25 مليون دولار). وتحت حكم الاقتصاد المركزي في سوريا، كان الطريق للثراء عبر حافظ وحزبه حزب البعث. ازداد هذا المسار تسارعاً تحت حكم بشار، حيث أن ابن خالته الملياردير رامي مخلوف يتحكم بما قدّر بـ 60% من الاقتصاد السوري.
بعد أن عزز بشار الأسد علاقاته مع الأثرياء الجدد في دمشق وحلب، وجد أبناء الريف أنفسهم منبوذين. فقد أظهر التقرير الخاص بسوريا في “مسح معدلات الخصوبة في العالم” الذي قام به المعهد الدولي للإحصاء أن معدل ولادة المرأة الريفية أثناء ذروة التضخم السكاني في البلاد يزيد بمقدار ثلاثة مواليد عن نظيرتها في المدينة. ويتطلع كثير من هؤلاء الشباب إلى جعل حياتهم أفضل في المراكز الحضرية السورية التي تنفجر سكانياً، فيستنفذون بذلك الطاقة الاستيعابية لهذه المدن إلى أقصى حد.
ولكن سواء بقي هؤلاء السوريون في الريف أو انتقلوا إلى المدن، كان من شبه المستحيل عليهم أن يرتقوا بأحوالهم المعيشية بعيد نقطة البدء. “على المستوى الوطني، لم يكن النمو في صالح الفقراء” كما جاء في تقرير أنجز في العام 2004 من قبل الحكومة السورية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، والذي أظهر بشكلٍ خجول ازدياد الفوارق في الدخل ضمن البلاد.
لقد ساهم نظام التعليم السوري في هذه المشكلة وذلك لفشله التام في تمهيد الطريق إلى توظيف هادف. وقد وصلت دراسة قامت بها الحكومة السورية في عام 2009 إلى أن أكثر من نصف السوريين يتركون المدرسة قبل أن ينهوا مرحلة التعليم الثانوي، وأن أغلبية ساحقة من هؤلاء يرون أن تعليمهم كان قليل الفائدة أو غير مفيد أبداً في عملهم الأول. كما كشف التقرير أن الطلاب غالباً ما ينجحون في إيجاد عمل عن طريق العائلة أو الأصدقاء، ولكنه لاحظ أن “فعالية أنماط توزيع الوظائف المبنية على شبكات غير رسمية مشكوكٌ بها.”
هناك أمر مثيرللسخرية في الأزمة الحالية إلى حدٍّ كبير، على الرغم من أن بشار قد لا يهتم بالاعتراف به. فكما نزلت الأجيال السابقة من مجتمعه العَلَوي من الجبال للسيطرة على الدولة، يحاول المواطنون الذين يملؤون الشوارع منذ ثمانية أشهر أن ينهوا عقوداً من التهميش. وبتحركهم في الساحات والشوارع السورية، يقتربون ببطء من المركز.
المصدر:
Foreign Policy