زيارة إلى مسقط رأس الثورة السورية تكشف عن خوف متفشي
أليكساندر ماركاردت Alexander Marquardt
7 كانون الأول 2011
درعا، سوريا– ركضت الفتاة باتجاه كاميرتنا وطلبت منا تصويرها، ولكن حالما رأت الأم ابنتها الصغيرة سرعان ما سحبتها بعنف من أمامنا. بقي الزوج واقفاً مكانه، يرمقنا بنظرات خاطفة محاولاً البحث عن كلمات يقولها لنا بالإنكليزية، ومن ثم بالعربية، لكنه في النهاية لم يقل شيئاً، لأن محادثتنا لم تلفت انتباه المارة فحسب بل أثارت حفيظة البوليس السري المتواجد بشكل دائم.
حدثت تلك المقابلة الفاشلة في تقاطع مزدحم قريب من محكمة المدينة بداية هذا اليوم. شعرنا بالخوف الذي يتملك أهالي مدينة درعا بعد مرور تسعة أشهر على الانتفاضة السورية التي بدأت هنا، كانوا يخافون التحدث مع أي شخص غريب. ومع تجول البوليس السري في المنطقة، باءت محاولاتنا بالتحدث مع الأهالي أمام الكاميرا بالفشل الواحدة تلو الأخرى. ولكن رجلاً في محل ألبسة، طلب عدم ذكر اسمه، حدثنا بصوت منخفض عن الاعتقالات العشوائية في منتصف الليل و”الكثير، الكثير، الكثير من القتلى”. كما تجرأ رجل آخر وسمح لنا بتصويره أثناء حديثه معنا، وقال لنا بأن النظام السوري “أسوأ من الحيوانات”.
في مقابلة حصرية، وعد الرئيس بشار الأسد السماح لفريق قناة (أي بي سي)– وآخرين، إذا ما تم منحهم تأشيرات دخول – بحرية التنقل في البلاد لتقييم “الأزمة”، كما تسميها الحكومة السورية.
وقال الأسد لباربرا والترز Barbara Walters “هل قال لك أحد أين يمكنك الذهاب وأين لا يمكنك؟ لم يفعل أحد، لديك الحرية في الذهاب أينما تشائين”.
بعد المقابلة، كرر لنا مكتب الأسد ما قاله، ووافقوا على طلبنا لزيارة مدينة درعا الجنوبية والتي تبعد بضعة أميال عن الحدود الأردنية. هنا في هذه المدينة وفي آذار الماضي كتب مجموعة من التلاميذ على جدار المدرسة، “الشعب يريد إسقاط النظام”. بعدها تم جمع هؤلاء الأطفال – بعضهم كان في سن المراهقة – ثم تم اعتقالهم، وكما ورد تعرضوا للتعذيب بخلع أظافرهم. أشعلت هذه الحادثة مظاهرات كبيرة في درعا وسرعان ما انتشرت في البلاد جميعها. بينما يقول كل من المحافظ والأهالي بأن أحداً لم يتعرض للاعتقال.
كان الطريق إلى مدينة درعا كما هو متوقع في وقت متأزم كهذا: مليء بسيارات الشرطة، نقاط تفتيش عسكرية وحواجز مشكّلة من براميل وأحجار مرسوم عليها العلم السوري. كانت خطتنا زيارة داعل، حيث كانت في الفترة الأخيرة إحدى القرى الأكثر اضطراباً في درعا.
عند وصولنا إلى درعا، وبعد حصولنا على الإذن، رفض المحافظ محمد خالد الهنوس دخولنا إليها، قائلاً بأن المسألة مستحيلة. هذا من أجل سلامتكم. تحوم العصابات المسلحة في المنطقة وقد قتلت اثنين من رجال الشرطة، هذا ما قاله لنا. وقد وردت أخبار كثيرة عن أن جنوداً منشقين “الجيش السوري الحر” نفذوا هجمات ضد مراكز أمنية حول مدينة درعا. وعندما قلنا له عن وعد الأسد والعرض الذي تلقيناه بإخلاء المسؤولية، رد على ذلك قائلاً: “الرئيس الأسد هو من يعطي الأوامر ونحن نفعل ما في وسعنا لتنفيذ أوامره”. “على كل حال هذا أمر أمني”، قال المحافظ: “سلامتكم فوق أي اعتبار”.
ما قاله لنا أصبح مفهوماً بعد أن خرجنا من مكتبه. لم يتم فقط منع فريقنا من زيارة داعل، إنما رافقت سيارتنا ثماني سيارات مليئة بعناصر أمن بلباس مدني بالإضافة إلى التلفزيون السوري الرسمي والذي صوّرنا طوال اليوم. (بعد التحدث عن التقييد والتفاصيل الأمنية، أتى من دمشق أمر رئاسي مُحبط ومُقدم لتنازل في الوقت نفسه).
ثم أخذنا موكبنا الذي اجتمع بعجلة إلى المحطة الأولى في جولتنا، والتي كانت مدرسة ابتدائية. كانت الجدران الخارجية مغطاة بالكتابات التي دُهنت أكثرها، إلا أن اسم الرئيس و كلمات: “حرية” و”ارحل” ظلت ظاهرة.
داخل المدرسة، شهدنا قص الشريط الحريري لافتتاح معرض فني للأطفال. عرض علينا زين وهو ولد في الصف السادس رسومه الملونة التي تُبيّن رجالاً مسلحين يقتلون جنوداً، وإرهابيين يدّعون أنهم متظاهرون سلميّون. وبجانب هذا الرسم كان هناك شعار محطة الجزيرة – والتي تعد مناهضة للنظام بشدة – مرسوماً على جمجمة. وعندما سألنا أحد المعلمين عن المدرسة التي اُعتقل فيها الأطفال في شهر آذار، قال إنها قصة ملفقة وأنه لا وجود لهذه المدرسة.
إلا أن الشيخ أحمد الصياصنة لديه رواية مختلفة. لقد كان إمام المسجد العمري في درعا، أحد أقدم المساجد في العالم. في بداية النهار، اصطحبونا إلى هناك لنرد على ما نشرته الصحف العربية من أن قوات الأمن هاجمت المسجد. في الفناء المشمس لم يظهر أي ضرر أصاب المسجد.
يقول الشيخ أحمد إنه عندما تم اعتقال الأطفال، ذهب هو وآخرون إلى السلطات ليطلبوا إطلاق سراحهم.
وقال الشيخ: “هؤلاء أطفال، لا يمكننا إلقاء اللوم عليهم، ونحملهم مسؤولية كتابة أشياء كهذه”. الشيخ أحمد ضرير وثقيل السمع، بعد التماسات عديدة وافق مرافقونا أخذنا إليه. ألحينا على أن ينتظرونا في الخارج، لكن في غرفة الجلوس ظل معنا رجلان ضخما الجثة يرتديان بدلاً رسمية وربطات عنق، وقالا إنهما أصدقاء لعائلة الشيخ. لاحقاً اتضح أنهما لم يكونا كذلك.
أضاف الصياصنة، وهو جالس على وسادة: “ذهبنا إلى المسؤولين لفعل شيء في هذا الشأن، لكنهم لم يسمعونا”. “سمعت أنه تم خلع أظافرهم، وأنهم تعرضوا للضرب والتعذيب”. وعندما سألناه عن مدينة درعا، أجاب: “إن استخدام القوة مستمر”. وعندها، انزعج أحد “الصديقين” والذي كان يصور بهاتفه الجوال. وقال: “عندما يقوم طرف ما بالتحريض، يرد الطرف الآخر”، “غيّروا تجاه أسئلتكم”. تابع الصياصنة، بأن أحداً لم يُحاسَب عن تعذيب الأطفال. “سمعنا بأنه تم عزلهم من مناصبهم (في الشرطة) ولكن حتى الآن لا أحد يعرف إلى أين انتهت الأمور…”.
بعد اعتقال الأطفال، زار الأسد مدينة درعا. وتم استبدال المحافظ القديم واستلم مكانه الهنوس والذي أشار إلى أن عزل المحافظ السابق وضباط الشرطة يُثبت أنهم المسؤولون عن ما حدث. وأضاف: “لا أعرف ماذا حدث بعد ذلك”.
قال الهنوس بعد أن قام عن كرسيه، محمّر الوجه، إن حركة الاحتجاج ما هي إلّا مؤامرة تقوم بها إسرائيل, الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي والخليج العربي (أي السعودية وقطر اللتان تسيطر فيهما الغالبية السنية). وعندما طلبنا الذهاب إلى مناطق احتجاج أخرى، ازداد غضبه. كرر المحافظ ما فتئت الحكومة السورية منذ آذار الماضي تردده “يوجد بين المتظاهرين عصابات مسلحة تطلق النار على المتظاهرين ورجال الأمن”.
اتفقنا على الذهاب إلى محكمة المدينة التي هوجمت بالقنابل الحارقة من قبل المسلحين، كما قال النائب العام. أُخذنا إلى غرف متفحمة فيها أكوام من الأوراق المحترقة. قال النائب العام إنها ملفات مجرمين وليست لمدنيين، وذلك دليل على أن المجرمين أرادوا مسح ماضيهم. بعد أن سئمنا التواجد الأمني معنا، ألحينا على أن نمشي في المدينة وحدنا. وأذعن كل من الشرطة ووزارة الإعلام لرغبتنا.
إلا أن ذلك لم يكن انتصاراً كاملاً، لأن أحداً لم يرد التكلم معنا. وكلما تنقلنا من محل تجاري إلى آخر نلمح عنصرين من البوليس السري واللذين رافقانا طوال اليوم. الرجل الذي كان يرتدي الياقة البيضاء، ورجل آخر ضخم ذو شارب.
عند اقتراب وقت الغروب، بدا أن مهمتنا باءت بالفشل، اقترب منا رجل في منتصف العمر صوته منخفض، متحدثاً الإنكليزية بلهجته، ولكن بطلاقة. أريد إسقاط النظام، قال أحمد عبد الرحيم، وأضاف أن حوالي ثلاثين بالمائة من [مدينة] درعا مؤيدة للأسد. في الواقع، مرّ من أمامنا رجل وصرخ، “الله، سوريا, بشار وبس”. تعرض عبد الرحيم “لتعذيب خفيف”، بينما قُتل ابن أخيه عندما جاء مع من أتوا إلى درعا “لفك الحصار العسكري” في وقت سابق هذه السنة.
عندما سألناه لماذا يخاطر بالتحدث معنا والشرطة تراقب، أجاب: “أعتقد أنه من واجبنا أن نفتح عيون العالم على حقيقة هذا النظام، إنه أكثر من شرير”. اشتعلت عيناه بالحزن، وبدأ التكلم بالعربية: “هذا النظام أسوأ من الحيوانات، حتى الحيوانات لديها رحمة”.
المصدر
ABC News