توم ناغورسكي Tom Nagorski
7 تشرين الأول 2011
مذكرة صحفي:
كان الانطباع الأول بسيطاً، واضحاً وضوح لسعة البرد التي يبعثها هواء دمشق: الأشياء تبدو طبيعية هنا.
كلنا شعرنا بذلك. بالطبع كنا نعلم بأن دمشق لم تكن مركز الثورة السورية، وبالتالي لم نر شيئاً من الإجراءات الصارمة المتخذة في حمص وباقي المدن الصغيرة.
مع هذا، فقد حذر بعض الدبلوماسيين وخبراء الأمن من التوترات ومن اضطرابات محتملة، ونصحنا أحدهم بأن “لا نلفت الانتباه قدر الإمكان”.
شعرنا بقلق جديد عندما ألغيت رحلتنا المسائية من عمان على الطيران الملكي الأردني، وقد تعلل [أحد موظفي شركة الطيران] معتذراً بأن طاقمه لا يستطيع قضاء الليل في العاصمة السورية. “هذا بسبب الوضع” كما قال. لذا كان من الغريب العثور على رحلة كاملة تقريباً في الصباح التالي، ومن ثم التوجه من مطار دمشق لنجد أن المدينة العريقة الصاخبة، خالية من المتظاهرين ومن نقاط التفتيش أو أية مظاهر أخرى قد تشير إلى أن المدينة تحت الحصار. الغريب في الأمر، هو معرفتنا بأن مسافة قصيرة بالسيارة تقودنا إلى حيث يكون العنف جزءاً من الحياة اليومية.
لاحقاً، زرنا أكشاكاً لبيع المؤن المتوفرة بكثرة، لحم، سمك ومنتجات مكدسة ومتاحة للزبائن الذين كانوا يختارون حاجياتهم. أما بعيداً في الأزقة المغطاة في السوق القديم فبدا أن عدد المشترين أقل بكثير، ولكن هنا أيضاً يوجد ازدحام. وعبر دمشق، فقد كانت حركة المرور تسير بضجتها وازدحامها المعتادين.
وبينما كنا نمشي على الأقدام أو نسير بالسيارة في المدينة، فكرت بعاصمتين عربيتين أخرتين، وبالأوقات المتوترة التي حدثت في زمن جيلين مختلفين. لقد كنت في بغداد عام 1990 بعد اجتياح صدام حسين للكويت وقبل أن تبدأ الولايات المتحدة وحلفائها (حينها كانت سوريا حافظ الأسد من ضمنهم) حرب الخليج الأولى. كانت وقتها مدينة تحت الحصار، التوتر والرعب، ورجال الأمن في كل مكان.
فكرت أيضاً في الأيام الأولى للثورة المصرية، منذ سنة تقريباً. لم أكن في القاهرة حينها لكن زملائي وصفوا لي شيئاً من العزلة التي نشعر بها الآن في سوريا: كانت ساحة التحرير حافلة ومزدحمة بينما باقي العاصمة منشغلة في أعمالها. بالطبع تلك الساحة المزدحمة نشرت رسالتها والاضطراب بسرعة. بعد أقل من شهر من بداية الاحتجاجات في مصر رحل حسني مبارك.
من الصعب تخيل انتقال الفوضى والغليان نفسه إلى دمشق. لكن، مرة ثانية، عندما تنظر إلى الظروف – الغضب المتصاعد لحركة الاحتجاج، التجييش من قبل بعض أعداء بشار الأسد والمجتمع الدولي الذي كاد يعزل سوريا كلياً- فإنه من الصعب رؤية كيف يمكن للحل السلمي إنهاء هذه الأزمة. مما يقودني إلى الانطباع الثاني، الذي يصيب بصدمة أكبر من الأول.
عندما تحاول رسم صورة لـ”الديكتاتور” في ذهنك فلن يخطر على بالك تَخَيُل بشار الأسد, اللطيف، الذي يتحدث بنعومة بل وحتى يتصرف ببلاهة. مرة أخرى، نحن نعلم [هذه الطباع] إلى حد ما، حين شاهدنا ظهوره التلفزيوني على مدى سنين (باربرا والترز Barbra Walters التقته مرتين من قبل). لكن بعد لقائنا الرجل في القصر الرئاسي، واستماعنا إليه وهو يتشاحن مع والترز لما يقارب الساعة، لم أستطع إلا التفكير بأن هذا هو المشرف على إجراءات القمع الأكثر وحشية في المنطقة؟ هذا هو قائد الأمة التي لامته الأمم المتحدة على قتل وتعذيب المدنيين الأبرياء ومنهم ما يزيد على 300 طفل؟
كنت أفكر, أين تلك النظرة الفولاذية المتغرطسة المرعبة التي كنت أتوقعها؟ حتى أن الأسد لم يكن يصافح بحزم. في المقابلة كان يضحك أحياناً ويعتذر عندما يخطئ في التهجئة أو عندما يتعذر عليه فهم كلمة ما (“لغتي الإنكليزية هي لغة طبيب، لغة سياسي”، قال لوالترز). شخصيته ليست كصدام أو القذافي. ولا حتى حسني مبارك.
بالطبع، شخصية القائد لا تهم كثيراً، بلا شك لا تهم المحتج الذي قتل بدم بارد، أو العائلة التي اختفى أبناؤها في سجون النظام. الأسد يعترف بالأخطاء- “عندما لم تكن قد حضرت نفسك لوضع جديد، أنت سوف ترتكب الأخطاء”، أخبر والترز- وقد اعترف بأن الأبرياء قد ماتوا وأن قواه الأمنية ارتكبت التجاوزات. لكنه أكد، بأنها كانت حالات “فردية”، وليس النظام بأكمله.
وفي تقرير الأمم المتحدة المشار إليه يوجد دلائل موثقة عن أن النظام أعطى أوامره للقوى الأمنية بالقتل، لكن أقوال الأسد مختلفة “نحن لا نقتل شعبنا”. قال “ليس من حكومة في العالم تقتل شعبها، إلا إذا كان يقودها شخص مجنون”.
إذن من أطلق الرصاص الذي قتل كل هؤلاء الأرواح، أكثر من 4000 شخص حسب العديد من الإحصاءات؟
ما أثار المعارضة السورية، بقدر المجزرة نفسها، هو حقيقة أنه لم يتم إدانة أحد عن القتل. أخبرنا الأسد بأن التحقيقات في كل تلك “الأخطاء” جارية، ولكن كما قال دبلوماسي أوروبي في دمشق، النظام يشتهر باعتقال المشتبه بهم على وجه السرعة، مع تداعيات وحشية. ولذلك فإنه من العجيب أن مثل هذه التحقيقات لا تزال دون نتيجة، بعد ثمانية أو تسعة أشهر من ارتكاب الجرائم.
كان لدي رد الفعل نفسه على ادعاء آخر من ادعاءات الأسد، رواية أخرى نُقلت بمرح متصنع. عندما قال بأن معظم العنف اُرتكب ضد الجيش السوري والقوى الأمنية، سألته والترز إذا ما كان هناك حرية للصحافة في السفر عبر البلاد ليروا بأنفسهم. “هل قال لك أحد إلى أين تذهبي أو إلى أين لا تذهبين؟ لا أحد”، قال الأسد لوالترز. “أنت حرة بالذهاب إلى أي مكان تريدين”.
ألحَّت، بالقول بأنها تعني فتح الباب في وجه المراسلين بشكل عام. مرة ثانية، قال، لن يكون هناك مشكلة. كأغلب المحررين الأجانب، قضيت تسعة أشهر تقريباً في محاولة الحصول على تأشيرة دخول من أجل مراسلينا دونما فائدة.
بعد المقابلة، اختبرت الوعد، مراسلنا للشرق الأوسط كان في دمشق مع المجموعة، كلنا كنا في صحبة مرافقي الحكومة. بالتأكيد، قلت لأحد كبار مساعدي الرئيس, بالتأكيد الآن, وبعد تلقي وعد الرئيس, يستطيع مراسلنا السفر خارج العاصمة؟
قضيت أغلب النهار في المساومات التي ذكرتني بمساومات مشابهة في موسكو، أيام الحرب الباردة. نعم، يستطيع الذهاب، لا، من الأفضل أن يكون في وقت آخر، في زيارة أخرى، نعم، يستطيع الذهاب، لكن ليس غداً وليس إلى أي مكان. لقد كان مثل وضع الأسد في السماح لمراقبي الجامعة العربية بالدخول إلى بلده: نعم ولكن.
سافر مراسلنا أليكس ماركوارد Alex Marquardtإلى داعل ودرعا، حيث ولدت الاحتجاجات، ووجد على حد تعبيره: “أنه بالإضافة إلى عدم السماح لفريقنا بالسفر إلى داعل, فسترافق سيارتنا ثماني سيارات أخرى ممتلئة برجال الشرطة باللباس الرسمي واللباس المدني الكامل ، كذلك الإعلام السوري الرسمي، الذي كان يلتقط لنا الصور والفيديو طوال اليوم”.
اتسمت أغلب مقابلة الأسد بهذا الأسلوب، عبارات رنانة مقنعة لكنها تبدو ملتبسة إلى أبعد حد. سوريا لم تكن معزولة، قال الأسد، الانشقاقات في قوى الجيش لم تكن سوى أعداد قليلة متوقعة، هو لم ير تقرير الأمم المتحدة ولا بعض قصص الإجراءات الصارمة الوحشية، وبأية حال، الأمم المتحدة لم تكن “مؤسسة موثوقة”.
ومع ذلك فقد شعرت وأنا جالس أحضر المقابلة بأن الرجل يصدق الكثير أو أغلب ما يقوله. فهل بشار الأسد ساذج؟ من الصعب تخيل ذلك. طبيب جيد؟ ربما. أو هو شديد الإيمان بالطرق الوحشية لأبيه، الذي يليق به لقب الديكتاتور بدقة أكبر؟
مرة أخرى، في نهاية الأمر، ربما لا يهم. بينما كنا في سوريا، أكثر من عشرات الأشخاص، من كلا الجانبين، قُتلوا. المزيد من العقوبات بدأت تأثيرها. سوريا خفضت قيمة عملتها المنخفضة أصلاً. وسكرتيرة الدولة (وزيرة الخارجية) هيلاري كلينتون Hillary Clinton أعلنت بأنها سوف تلتقي بالمعارضة السورية في أوروبا.
بشكل رصين وواثق كما الأسد، هادئ وطبيعي كالعادة مثلما تبدو عاصمته، نحن أيضاً لم نستطع التوقف عن التساؤل، عندما غادرت طائرتنا دمشق، فيما إذا كان مستقبل خطير يتربص بهذه المدينة العريقة وديكتاتورها العصري.
المصدر
Inside Syria: An Ancient Country and a Modern Dictator
ABC News