آرماند هوراولت Armand Hurault
25 تشرين الثاني 2011
منذ الجولة الأولى من العقوبات الدولية على النظام السوري في شهر أيار شكّك بعض المراقبين بجدوى وكفاءة العقوبات الاقتصادية.
من الحجج المتكررة في هذا السياق أن العقوبات لا تؤثر على النظام فحسب، بل تؤثر بشدّة على الطبقات العاملة “متسببةً في جعل الناس فقراء وجياع”[1]، الأكثر من ذلك يجادل البعض –متخذين الحالة العراقية كمثال– بأن العقوبات قد تعمل على تشديد قبضة النظام على البلاد، فالعقوبات تفقر السكان مما يجعلهم أكثر اعتماداً على مساعدات الدولة من أجل تأمين قوت يومهم، نتيجةً لذلك يصبحوا أقل قدرة على تحدّي سيطرة الدولة على المجتمع.
هذه التساؤلات الأخلاقية مهمة، كما أنه من المعروف أن العقوبات لوحدها لا تستطيع أن تسقط نظاماً. ولكن في الحالة السورية فإن العقوبات تتضافر مع ضغط داخلي شعبي بالإضافة إلى تهديد عسكري متزايد ممثلاً في الجيش السوري الحر الذي برز مؤخراً. يجتذب الجيش الحر المزيد والمزيد من المنشقين إلى جانبه كما أظهر قدرات عالية من خلال عمليات متصاعدة نوعياً. وبما أن لكل بلد حالة خاصة بحد ذاتها علينا أن ننظر إلى تأثيرات هذه العقوبات على البنى الداخلية لقوة النظام وعلى قواعد تأييده الشعبية بين السكان، إن هذه العقوبات تغير من ميزان القوى بشكلٍ فعال لصالح المعارضة من خلال إضعاف البنى الداخلية وإضعاف روابطها مع قاعدة التأييد.
يتعلّق السبب الأول بكون هذه العقوبات فعالة بالعوامل التي تضمن تكافل الأفراد العاملين ضمن النظام سواء كانوا من النخبة أم من المراتب الدنيا، حيث تتكون النخبة من الحكومة ومعاوني الوزراء والمدراء رفيعي المستوى في القطاع العام والجنرالات وأعضاء القيادة القطرية لحزب البعث. فقدت أيديولوجيا البعث معظم تأثيرها خلال السنوات العشرين الماضية[2]، فلم يعد الخطاب البعثي يلعب دور الرابط بعد الآن. فالروابط التي تجمع الأشخاص الذين يسعون إلى الحصول على مناصب في النظام هي في الغالب روابط قائمة على علاقات المحسوبية.
على الرغم من أن مؤسسات النظام الرسمية هي الجهاز الأمني (الجيش وأجهزة المخابرات) والحزب والجهاز الإداري (البيروقراطي)، فإن العلاقات المؤسساتية مُعززة بصلات شخصية غير رسمية قائمة على علاقات المحسوبية.[3] تعتمد المحسوبية كأسلوب في الحكم على تبادل الموارد أو حق الوصول إليها مقابل الولاء أو الطاعة.[4] يشكّل هذا النظام شبكة هرمية غير رسمية من علاقات التبعية بين مجموعة من الرعاة ووكلائهم والتي تعمل تحت غطاء المؤسسات العامة. يمكن تصور هذه الشبكات على هيئة هرم يقبع في قمته الرئيس وأعضاء عائلته المقربون وأقطاب النظام الأكثر تأثيراً، كل شخصٍ في هذا الهرم يخضع لراعٍ يعتمد عليه في الحصول على امتيازات (الأموال، فرص الاستثمار، غض النظر عن ممارسات الفساد، إلخ) مقابل أن يدين بولائه له، ولكن كل شخصٍ بدوره يمتلك شبكة واسعة من الوكلاء الذين يوزع عليهم جزءاً من الامتيازات التي يحصل عليها، تتغلغل هذه الشبكات الهرمية غير الرسمية القائمة على المحسوبية جميع المؤسسات وعلى كافة مستويات المجتمع من أجل أن تضمن ولاء شرائح مختلفة من الناس ذات مصالح مختلفة أو حتى متناقضة والتي لم تدعم النظام بالضرورة. إن هذا النوع من السياسة يفتت المجتمع[5]، حيث يجد الناس أنفسهم مجبرين على البحث عن حلول لمشاكلهم من خلال العلاقات الشخصية مع المسؤولين في النظام.
أولاً: تعمل العقوبات الدولية على فصل القمة عن باقي الهرم من خلال استهداف شخصيات رفيعة المستوى بمعاقبة مشاريعهم وتجميد أصولهم في الخارج، فـ”القنوات الحيوية” التي كان يتم من خلالها التحكم في توزيع الأموال والامتيازات باتت “متوقفة عن العمل”، وحيث أن ضخ الموارد في هذه الشبكات يزداد صعوبة يوماً بعد يوم يصبح تناسق وتماسك هذا النظام أقل ثباتاً.
ثانياً: بالإضافة إلى استهداف آليات هذه البنى فإن العقوبات تستهدف أيضاً مصدر الموارد. ثانياً: [هكذا كما جاء في المقالة الأصلية] بالإضافة إلى استهداف آليات هذه البنى فإن العقوبات تستهدف أيضاً الطريقة التي يتم بها توزيع الامتيازات على الوكلاء، فبما أن فرص الاستثمار قد شحّت نتيجةً لرحيل الاستثمارات الأجنبية عن البلد فإن الشكل الوحيد الذي يمكن أن تأخذه الامتيازات هو الرشاوى والاستيلاء على المال العام.
من ناحية أخرى شكّل قطاع النفط قبل الأزمة نصف دخل الدولة حيث كان يصدر 90% منه إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن تطبيق الاتحاد الأوروبي حظراً على النفط السوري اعتباراً من الثاني من أيلول قلّص بشكلٍ حاد من الأصول السائلة الجاهزة لكي تضخ في تلك الشبكات[6]، وكما صرّح سمير سايفان Samir Seifan فإن استنفاذ موارد الدولة يعني بأن “النظام لم يعد مصدراً للفوائد والامتيازات للمجموعات المؤيدة له”.[7] العامل الوحيد الذي يحفظ تماسك النظام الداخلي في الوقت الحالي هو الخوف من عمليات الانتقام الشعبية في حالة تغير النظام، هذا بالطبع ليس كافياً لأن يوفّر للنظام مستقبلاً طويل الأمد.
السبب الثاني يكمن في أن فاعلية العقوبات الاقتصادية تلعب دوراً في تحييد القاعدة المؤيدة للنظام، فمن خلال تقليص صادرات سوريا بشكلٍ حاد تزعزع العقوبات استقرار الليرة السورية. وكما نوّه بشار الأسد في شهر حزيران[8] فإن مسألة استقرار الليرة السورية ذات أهمية قصوى في الأزمة الحالية، فالنظام لم يعتمد على ضمان سلطته على الولاء الفردي (شبكات المحسوبية) فحسب، بل دعّم سياساته من خلال الاستمالة الواسعة للطبقات الاجتماعية–الاقتصادية إلى صفّه من أجل أن يمنحونه بعض الشرعية، فالنظام لم يتّكل على الجيش والأجهزة الأمنية فقط، بغض النظر عما يقوله الناشطون السوريون المعارضون للنظام. أي نظام يحتاج إلى قاعدة تأييد بين المواطنين من أجل تثبيت أركان شرعيته كي يتجنّب الظهور بمظهر دكتاتورية عسكرية، فمن دون قاعدة اجتماعية–اقتصادية من المؤيدين لما تمتّع النظام بأي شكلٍ من الشرعية ولما استمر على المدى الطويل. في الواقع يظهر تاريخ سوريا البعثية بأن استمالة قطاعات كبيرة من المجتمع كان على الدوام من الأولويات.
منذ ثورة البعث في عام 1963 ومنذ انقلاب حافظ الأسد عام 1970 شكّل المزارعون والعمال في المدن قاعدة التأييد التقليدية للنظام. ولكن منذ الأزمة الاقتصادية في أواسط الثمانينات والاستنفاذ السريع لاحتياطيات النفط وما نتج عنه من نقص في موارد الدولة بات من المستحيل المحافظة على نظام دولة الرفاهية على المستوى المطلوب لضمان ولاء الطبقات العاملة، فدخل النظام نتيجةً لذلك في القبضة المالية، حيث قرر حافظ الأسد تحرير الاقتصاد، على الرغم من أن هذا التحول في السياسات كان على الأغلب سيسرّع من نفور الطبقات العاملة إلا أنه هدف إلى استمالة قطاعات واسعة من مجتمع الأعمال. وقد استمر بشار الأسد في هذه السياسة منذ تسلّمه السلطة عام 2000، لذلك بما أن نفور المزارعين والعمال في المدن قد وصل إلى مستوى غير معقول قبيل شهر آذار فإن الطبقات الاجتماعية-الاقتصادية الوحيدة التي يمكن أن يعتمد عليها النظام هي مجتمع الأعمال.
نظراً لكون غالبية مجتمع الأعمال السوري عبارة عن برجوازية تجارية بنت ثرواتها من خلال تجارة الاستيراد والتصدير فإن أسعار الصرف قضية في غاية الأهمية للمستثمرين السوريين. الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على استيراد النفط في الثاني من أيلول جعل احتمال وقوع انهيار وشيك لليرة السورية احتمالاً كبيراً. قبل الاضطرابات شكّل النفط ثلثي الصادرات السورية[9]، كما خصص الاتحاد الأوروبي ما يزيد على 90% منه. النظام الآن غير قادر على إيجاد مشترين لحوالي 140,000 برميل من النفط الخام كل يوم[10] في حين يبلغ الإنتاج اليومي 240,000 برميل. يقلّل الجانب السلبي (المدين) من ميزان المدفوعات من احتياطي العملات لدى البنك المركزي والتي في حال اُستنفذت قد تؤدي إلى انهيار العملة الوطنية، وعلى الرغم من أن مسؤولي الدولة قد أكّدوا أن البنك المركزي لديه ما يكفي من احتياطيات العملة الأجنبية لتغطية نفقات الاستيراد لمدة عامين[11] فإن العديد من القرارات الصادرة عن الدولة توحي في الفترة الأخيرة بأن الضغط على العملة الوطنية شديد جداً[12].
يجادل البعض بأن مجتمع الأعمال لن ينقلب على النظام أبداً، أعتقد بأن ذلك يعتمد على ماذا نعني بعبارة “ينقلب على النظام”. في الحقيقة يبدو من المستبعد أن رجال الأعمال المعروفين سيتخذون موقفاً رسمياً مؤيداً لتغيير النظام أو يقدّمون دعماً مالياً لمجموعات المعارضة، ولكن خوفاً من انهيار محتمل لليرة فمن الممكن أن يتجهوا لتحويل أصولهم المالية إلى الخارج، فخلال الثلث الرابع من هذا العام انخفضت الودائع في البنوك السورية الخاصة بمقدار 18% كما انخفضت الودائع في الحسابات السورية الموجودة لدى البنوك اللبنانية بمقدار 24% قبيل نهاية شهر نيسان بحسب بنك بيبلوس[13]. هذا يزيد الضغط على العملة ويجعل انهيارها أكثر احتمالاً.
تنسف العقوبات البنى التي يقوم عليها النظام، كما تقلل من تماسكه وتنفّر قاعدة التأييد له. بالإضافة إلى الضغط من الجيش السوري الحر والعزلة الدبلوماسية المتزايدة، يبدو جلياً أن لا رجعة لبشار الأسد إلى حالة الاستقرار. هل سيستمر الجنود في هذه الظروف بإطاعة الأوامر لقتل المتظاهرين في الوقت الذي أصبح فيه واضحاً أن الانتقام لن يجلب الاستقرار؟ إن الحقيقة الكامنة في أنهم باتوا الآن يخاطرون بحياتهم وأن دفع رواتبهم بات أمراً غير مؤكد قد تساعدنا في الإجابة عن هذا السؤال[14]، لذلك نعم، العقوبات فعّالة، إنها تغير من ميزان القوى.
1 . http://www.joshualandis.com/blog/?p=12677
2. اعتبر جوزيف باهوت أن الأيديولوجية البعثية قد فقدت كامل تأثيرها على النخب السورية منذ عام 1991. انظر The Syrian Business Community, its Politics and Prospects in Kienle, Contemporary Syria, Liberalization Between Cold War and Cold
Peace.
3. “بالإضافة إلى ذلك فقد تم تأمين سيطرة الأسد الشخصية على النظام من خلال التوظيف المتعمد لأدوات الحكم القائم على الولاء للسلطة وخاصة الولاءات الشخصية والمحسوبية”. Perthes, Political Economy of Syria under Assad, p.180.
Sadowsky, Patronage and the Baath: Corruption and Control in Contemporary Syria, quoted by Perthes, Political4. Economy of Syria under Assad , p.181.
5. “تربط المحسوبية المجموعات الإستراتيجية –كالجيش وبعض قطاعات البرجوازية– بالنظام، بل إنها تساعد أيضاً على خلق قاعدة للنظام في المجموعات المجتمعية التي لم تكن من بين المجموعات المؤيدة النظام، نظراً لطبيعتها الانتقائية جداً فإنها تساهم في تفتيت هذه المجموعات”.
Perthes, Political Economy of Syria under Assad, p.181.
6. ينعكس النقص في الأصول السائلة في الطريقة التي يتم بها بيع ممتلكات عائلة الأسد في الخارج.
The Telegraph, 06/10/2011, “Syria: Assad family ‘selling off overseas property empire”.
8. http://www.reuters.com/article/2011/06/20/us-syria-assad-speech-idUSTRE75J1U720110620
9. IMF, February 2009: Syrian Arab Republic: 2005 Article IV Consultation—Staff Report, report n° 05/356, p5
10. http://www.guardian.co.uk/commentisfree/2011/nov/14/economic-sanctions-syria-bashar-al-assad-regime
11. صرح محمد الجليلاتي وزير المالية في شهر أيلول بأن البلاد تمتلك 18 مليار دولار من احتياطي العملة الأجنبية والتي تكفي لتغطية نفقات الاستيراد مدة سنتين.
12. تم فرض قيود على تصريف العملات في الخامس عشر من شهر آب:
http://www.sana.sy/eng/24/2011/08/15/363966.htm
كما قررت الحكومة في شهر أيلول منع استيراد قائمة طويلة من السلع المكلفة:
http://www.syria-report.com/news/economy/import-restrictions-signal-dark-days-ahead
باع عائلة الأسد ممتلكاتهم الموجودة في الخارج:
كل هذه القرارات تعطي الانطباع بازدياد الضغط على احتياطي العملة الأجنبية.
13. http://articles.latimes.com/2011/aug/17/world/la-fg-syria-finances-20110817
14. فيديو مسرب بتاريخ 17 تشرين الثاني يظهر جنوداً يتجادلون من أجل 70 ليرة (دولار ونصف):
http://www.youtube.com/watch?v=3bgpTviJb2w
Syria: Why Sacntions are Efficient
International Crisis Group