سيناريوهات المستقبل السوري – السفير نيكولاس فاندام…
27 تشرين الثاني 2011
د. نيكولاس فاندام في حلقة نقاش حول مستقبل سوريا، برلين – مؤسسة كونراد أديناور Akademie der Konrad-Adenauer، ستيفتونغ Stiftung، 23 تشرين الثاني 2011
يبدو أن قدرات الناس بشكل عام محدودة جداً عندما يتعلق الأمر بالتفكير أو بتطوير سيناريوهات للمستقبل، ويعود ذلك إلى الغياب الحاد والشائع للقدرة على التخيل. إلا أنه حين يبلغ الأمر مرحلة معينة من تطور الأحداث، يبدأ الناس بتوقع ما سيأتي لاحقاً، ولكن بشكل عام؛ ليستقبل هذه المرحلة.
من ناحية أخرى، لدى العديد من الناس نزعة تجاه خلط ما يسمى بالتفكير الموضوعي بالتفكير المبنى على التمني.
علاوة على كذلك، على الأقل فيما يخص الحالة الراهنة الخاصة بسوريا، لا يرغب الكثير من الناس بشكل عام أن يبدو وكأنهم يقومون بتقديم تحليلات قد يتم تفسيرها على أنها اعتراض أو انتقاد لأولئك السوريين الشجعان الذي يملكون نوايا جيدة وسلمية، والذي يعارضون ديكتاتورية الأسد، ولكنهم لم ينجحوا بعد في الوصول إلى هدفهم الرامي إلى إيجاد سوريا أكثر حرية وديمقراطية.
فعلى سبيل المثال، تقوم المعارضة وغيرهم بتوجيه انتقادات للعديد من الأكاديميين الذين لاحظوا خلال متابعتهم للأحداث منذ بداية العام أنه خلال أعمال العنف المستمرة منذ ثمانية أشهر، فإن المعارضة لم تكن سلمية تماماً، وأنه تم استخدام العنف ومهاجمة الجيش وقوى الأمن بالأسلحة، الأمر الذي ترى فيه المعارضة أنه يثبت رواية النظام عن كونه مستهدفاً من قبل ما يدعى بـ “الجماعات الإرهابية المسلحة”، وقد يؤدي ذلك أيضاً إلى تشويه صورة المعارضة المتمسكة بسلميتها بشكل صارم، تلك السلمية التي أكسبتها درجة عالية من الشرعية الأخلاقية.
كيف لنا أن نقيّم الحالة في سوريا بشكل واقعي من الخارج؟ هل من الممكن إيجاد رؤية موضوعية من خلال التقارير المنتشرة عبر القنوات الإعلامية من قبل المعارضة والنظام؟ هل ينبغي أخذ تصريحات النظام السوري على محمل الجد حين يتحدث عن ما يُدعى بـ “العصابات الإرهابية المسلحة”، أو حين يتحدث عن نواياه وجهوده بإجراء إصلاح سياسي؟ ما الذي يراه ويختبره الشعب داخل سوريا، على سبيل المثال، في أكبر مدينتين دمشق وحلب؟
أخبرني بعض الأصدقاء بأنهم لم يلاحظوا أي من الأحداث الدموية وأن الأمور خلافاً لذلك وأن “كل شيء يبدو هادئاً”. إلا أن ذلك لا يعني بأن الحالة كانت وما تزال خطيرة للغاية في مناطق أخرى. بالتأكيد لدى الناس في حمص وحماة ودرعا تجارب مختلفة تماماً بسبب الحصار العسكري المطبق الذي يعيشون فيه.
شيء واحد أكيد، وهو أن التطورات هناك كانت دموية إلى أقصى حد، وأن أكثر من 3500 من المعارضة سقطوا ضحايا وقتلى. ولكن بشكل عام لم يتم أخذ الضحايا الذي سقطوا من قوات الأمن والجيش التابعة للنظام على محمل الجد بعد، لأن الشعب بشكل عام لم يرد أن يصدق بأن هناك معارضة مسلحة منذ بداية ما يمكن أن يُسمى بـ”الثورة الشعبية”. وعند الأخذ بالحسبان النسبة المرتفعة نسبياً من عدد الضحايا الذين سقطوا من النظام، مقارنة بأعداد الضحايا الذين سقطوا من المعارضة، (والتي تمثل حوالي 1/4 إجمالي الضحايا ما يعني بأن كل أربعة ضحايا من المعارضة يوجد ضحية واحدة من النظام)، فإنه لابد من القول أن هناك وجوداً حقيقياً لعنف مسلح ضد النظام في المراحل الأولى من الثورة، وربما يكون هذا العنف قد اُرتكب بشكل “هامشي” من قبل سلفيين أو آخرين من الذين يُطلق عليهم النظام اسم “العصابات المسلحة”.
بشكل عام، فإن ردة فعل النظام تجاه المتظاهرين السلميين لم تكن ملائمة بأي حال من الأحوال، بينما لو كان قتاله ضد معارضة مسلحة فقد يُنظر إلى الأمر على أنه شيء طبيعي تماماً. لكن من ناحية أخرى، لم يقدّم النظام أبداً أي توصيف أو شرح عن هذه “العصابات المسلحة”، الأمر الذي قد يمكّنه من الدفاع عن موقعه الحالي.
في المقابل، ولما لذلك من أهمية جوهرية، ينبغي علينا ألا ننسى بأن النظام لديه الكثير من المؤيدين أيضاً، فإلى جانب أولئك الذي يدعمون النظام عن قناعة كاملة، هناك أيضاً من يدعمه تخوفاً من البديل الذي سيحل مكانه، فالتغيير لا يعني دائماً بأن الأمور ستتحسن، وما العراق إلا خير دليل على ذلك.
بالتأكيد من الصعب على الإنسان توقع المستقبل بيقينية تامة، بما في ذلك أنا شخصياً. مع ذلك فقد قمت بصياغة بعض السيناريوهات لمستقبل سوريا.
أود هنا أن أخص بالذكر ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
إن أي انقلاب عسكري من شأنه أن يمهد الطريق أمام الانتقال من الديكتاتورية البعثية السورية المسيطر عليها من قبل العلويين إلى ديكتاتورية أخرى أكثر اتساعاً إلى حد ما، والتي على الأقل ستكون مستعدة لإجراء إصلاحات سياسية جذرية مما قد تؤدي في نهاية الأمر إلى سوريا أكثر ديمقراطية.
بكل الأحوال، يُتوقع لهذا السيناريو أن يتضمن إراقة للدماء، لأن نظام الأسد لن يتنحى بشكل طوعي، فمن المنطقي التوقع بأن الأسد ومن حوله لن يوقعوا على “التفويض بالموت” بإرادتهم، حيث لا وجود لأي من التوقعات الإيجابية بعد التنحي، فإما أن يتم حبسهم، وهذا أفضل ما يمكن أن يحدث لهم، وإما أن يتم إعدامهم، وهذا هو الاحتمال الأرجح والأسوأ لهم.
إن تسليم القيادة السورية الحالية إلى محكمة الجنايات الدولية لن يُشبع المطالب العامة للمتظاهرين السوريين، الذين رفعوا شعارات تطالب بإعدام الرئيس (حيث أن محكمة الجنايات ليس لديها عقوبة الإعدام). لكن في النهاية، وبالنظر إلى الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية من قبل النظام، سيكون من الطبيعي جداً أن يتم الحكم على الرئيس والعديد من قادته العسكريين والأمنيين المباشرين بعقوبة الإعدام.
من الممكن للسيناريو الأول أن يبدأ من خلال انقلاب عسكري من داخل النظام نفسه، يقوم به أولئك الذين كانوا أو أصبحوا ضد تصرفات النظام. ومع ذلك، فإنني لا أتوقع حقيقة أن تكون تلك “ثورة القصر”، بمعنى أنه قد يتم هذا الانقلاب من قبل أشخاص مقربين من الرئيس، والذين هم بأنفسهم يتقاسمون المسؤولية عن كل ما حدث خلال العام الماضي، إلا أنه من الممكن أن يحدث من قبل البعيدين أكثر عن مركز الحكم إلا أنهم مقربون له بالوقت نفسه.
إن نسب احتمال نجاح هذا الانقلاب العسكري ليست مرتفعة جداً، وذلك بسبب المخاطرة المباشرة التي تحتويها هذه الخطوة. فكل من يتأمل فقط هذه الفكرة أو قد يشاركها مع الآخرين فإنه سيعرض نفسه لمخاطر الإعدام الفوري. لدى النظام السوري عقود من الخبرات التي تؤهله لتجنب الإنقلابات العسكرية.
السيناريو الثاني يمكن أن يتم من خلال استمرار النظام الحالي إلى فترة أخرى غير محددة، مع القيام ببعض الإجراءات البطيئة ولكن الجادة نحو تطبيق إصلاحات تؤدي في النهاية إلى تغيير سلمي للنظام.
في هذا السيناريو، قد تقوم الديكتاتورية السياسية المتشددة الحالية بتقديم وتفعيل إصلاحات سياسية جوهرية، تقود البلاد إلى نظام أقل ديكتاتورية، وأكثر ديمقراطية، الأمر الذي سيؤدي في النهاية إلى استبدال الحكم البعثي المستبد. ومن الممكن للرئيس أن يتنحى فيما بعد من تلقاء نفسه، حيث يقوم بتكليف شخص ما يكون مقبولاً له وللمعارضة معاً، وذلك لقيادة المرحلة الانتقالية بوصفة شخصية انتقالية فقط.
وكما في السيناريو الأول حيث لا ترغب القيادة السياسية البعثية بالتوقيع على “تفويض الموت” الخاصة بها، فإنها ستحتاج لممر آمن للانتقال إلى بلد آخر مع ضمان عدم ملاحقتها قضائياً فيما بعد. قد يحقن هذا السيناريو الكثير من الدماء، إلا أنه سيكون من الصعب إدراكه في الوقت نفسه، وذلك لأنه حالما يصبح نقل السلطة أمراً واقعاً، ستتناقص رغبة المعارضة بالقبول بمثل هذه التسوية (في حال كانت أساساً مقبولة سياسياً)، والعديد من السوريين سيفضلون بشكل عفوي أو انفعالي تطبيق العدالة عن طريق ممارستها، الأمر الذي سيتسبب بقدر كبير من سفك الدماء والذي لا يمكن التكهن به، مفضلين ذلك على السعي نحو تحقيق العدالة ضد القيادة والتقليل من سفك الدماء.
إن المشاعر الانفعالية العفوية الممزوجة بسفك الدماء قد تطغى على الواقعية الممزوجة بقليل من الدماء، وهذا بدوره سيساهم في غياب فرص نجاح هذا السيناريو.
في الواقع، لقد تلاشت إرادة “المعارضة” للدخول في حوار مع النظام حول الإصلاح السياسي والتغيير بشكل جذري خلال العام الماضي، إن لم تختف بشكل كامل، وذلك يعود إلى سفك الدماء والقمع الذيّن يمارسهما النظام دون توقف وبازدياد، وقد يكون من المستحيل وغير المقبول لأية معارضة أن تدخل في حوار حقيقي مع نظام يقوم في الوقت نفسه بقمعهم بإسلوب دموي.
السيناريو الثالث يمكن أن يكون الدخول في حرب أهلية. وهذا السيناريو سيكون على الأرجح كارثياً والأكثر دماراً ودموية من السيناريوهات الأخرى، لأنه سيؤدي إلى خروج الأمور عن نطاق السيطرة. علاوة على ذلك، لن يصب في مصلحة أي من الطرفين. في ظل هذا السيناريو سيلحق الأذى بأعداد كبيرة من الشعب، وستمر سوريا بسببه بانتكاسة كبيرة جداً الأمر الذي سيؤدي إلى أضرار قد يشعر بها عدة أجيال لاحقة، إضافة إلى تأثر الدول المجاورة به.
من المؤكد أن الحرب الأهلية ستتسبب في خلق بيئة للطائفية، تؤدي إلى نوع من الاستقطاب الطائفي الذي لم تشهده البلاد من قبل. بالطبع، الجميع يتذكر المجازر التي وقعت في حماة عام 1982، التي أدت إلى زرع بذور الفتنة والانتقام في المستقبل، والتي من الممكن أن تُؤتي أُكلها في ظل حرب أهلية كهذه.
كتب توماس فريدمان Thomas Friedman ذات مرة في العام 1989 بشيء من الوعي المتأخر أنه “لو تمكن شخص ما من القيام باستطلاع موضوعي للرأي في سوريا ما بعد مجزرة حماة، لوجد أن الأسلوب الذي عالج به حافظ الأسد التمرد في حماة كان سيحظى بتأييد كبير حتى بين العديد من المسلمين السنة، حيث أن لسان حالهم سيقول: ” شهر واحد من حماة أفضل من 14 عاماً من الحرب الأهلية كالتي حدثت في لبنان”. ( توماس فريدمان Thomas Friedman ، من بيروت إلى أورشاليم ، لندن، 1989، ص 100-101).
اليوم، الأمور مختلفة تماماً (إذا كان التحليل العقلاني لفريدمان صائباً في المقام الأول، والذي أستبعده، كونه يتسم بوعي متأخر). هذه المرة لا يتعلق الأمر هنا بمقتل العلويين على يد الإخوان المسلمين الذين يحاولون إثارة استقطاب طائفي لصالحهم، بل إن الأمر يتعلق بالمحتجين السلميين الذين يتم قمعهم بشكل دموي من قبل قوات الأمن والجيش المسيطر عليها من قبل العلويين، إلى جانب عصابات العلويين (الشبيحة) الذي يسعون في واقع الأمر إلى إثارة مواجهات طائفية، ولكن عن طريق إثارة المخاوف وتحذير الآخرين من القيام بما يقوم به النظام نفسه لثمانية أشهر.
في هذا السياق، كتب الدكتور منيف الرزاز، القائد البعثي السابق، عن تطورات مماثلة في العام 1960، حيث ذكر في كتابه “لا أعرف أيهما يعتبر جريمة خطيرة أكثر من الأخرى: إثارة الطائفية أم التعرض لها”. (التجربة المرة، بيروت، 1967 ، ص 160).
خلال هذا العام الذي شارف على الانتهاء، ومنذ بداية المظاهرات في شهر آذار، قام النظام بإثارة المعارضة ودفعها إلى الدخول في أعمال عنف أكثر فأكثر، وهذا الأمر قد يؤدي إلى حالة لا يمكن لأي كان السيطرة عليها. فمنذ بداية الأزمة الحالية، كان لا يزال هناك فرصة لبشار لإنقاذ الموقف بقيامه بتنفيذ إصلاحات سياسية جذرية. على الأقل كان من الأهمية بمكان، منع عناصر الأمن والجيش من استخدام العنف، ولكن مع التطورات الجارية، بدا واضحاً أن حتى بشار لا يمتلك السيطرة الكاملة على رجاله إن كان على الأقل لديه النية بإيقاف أعمال العنف (كما أعلن في ذلك الوقت عبر الناطقة باسمه بثينة شعبان). وحيث أن أعمال العنف استمرت دون هوادة، أصبح بشار مسؤولاً عنها أكثر فأكثر، إلا إذا قرر التنحي، وهذا الأمر لا يستطيع فعله طبعاً دون تعريض النظام بكامله إلى الخطر.
إن الحرب الأهلية ذات الصبغة الطائفية قد تشتعل من داخل القوات المسلحة، مدعومة من المدنيين ومن وحدات الجيش المنشقة، وقد تكتسب زخماً أوسع بانضمام كامل للمجتمع السوري. وبما أن الأجهزة العسكرية والأمنية السورية مُسيطر عليها غالباً من قبل العلويين، حيث أنهم لا يملكون المواقع الأكثر حساسية فقط، بل يملكون التسليح الجيد والضخم، فإنه سيكون من الصعب جداً على المعارضة الإطاحة بهم. على ذلك فإن انتصار القوات غير العلوية يجب أن لا يؤخذ على أنه أمر مسلم به بهذه السهولة.
قد يستطيع أحدنا التفكير بسيناريوهات عديدة أخرى، لكن عند النظر إلى السيناريوهات الثلاثة التي ذكرتها، نجد بأن السيناريو الأخير المتعلق بحرب أهلية طائفية هو السيناريو الأسوأ على الإطلاق والذي ينبغي تجنبه مهما كان الثمن، وبالتالي فإن ذلك يترك خيار الإنقلاب العسكري من الداخل الذي ينطوي على مخاطر كبيرة للغاية علاوة على صعوبة نجاحه. كذلك خيار الإصلاح من خلال الدخول في حوار مع النظام يهدف إلى تأمين مخرج آمن من البلاد للنظام وعناصره الأكثر تشدداً بمن فيهم بشار، قبل تسليم السلطة إلى شخصيات وقوى أخرى والذين لديهم الإرادة على قيادة الإصلاح، لا وبل لديهم القدرة على ذلك.
قد يطرح أحدهم السؤال فيما إذا كان المتظاهرون منذ البداية ولاحقاً يمتلكون السذاجة التي دفعتهم إلى الاعتقاد بأن النظام سيقوم بإجراء إصلاحات سياسية جذرية تؤدي إلى إيجاد نظام سياسي أكثر ديمقراطية وإلى السماح بحرية التعبير؟ هل حقاً يعتقدون بأن النظام سيقوم بتنفيذ مطالبهم بشكل سلمي، أو حتى أن المظاهرات السلمية قد تكون قادرة على إسقاطه؟ قد يكون من المهين النظر إلى المتظاهرين الشجعان على أنهم سذج. ولكن بالنظر إلى الظروف، فهم لا يملكون بدائل أخرى عن التظاهر بشكل سلمي.
إن أية جهود تبذل لمعارضة النظام باستخدام العنف، ستؤدي بشكل مؤكد إلى عنف أكثر بين طرفين لا يتساويان إطلاقاً من حيث ما يملكونه من معدات. فمنذ البداية لم يكن لدى أغلب المتظاهرين أي خطة مدروسة أو استراتيجية ما، والعديد منهم لا زالوا لا يملكون هذه الخطة بعد، كما لم يكن هناك أي قيادة واضحة. وإلى اليوم، ما تزال جماعات المعارضة المتنوعة منقسمة في خياراتها وسياساتها، على الرغم من أنه وبعد مرور ثمانية شهور ينبغي أن تكون الخطوط العريضة المشتركة لمبادئ السياسة المتبناة قد بدأت أخيراً بالظهور بشكل أكثر وضوحاً.
على عكس ذلك، فقد شكلت المظاهرات السلمية ردة فعل عفوية مناهضة للعنف وأساليب القمع الممارسة من قبل النظام، والتي بدأت في درعا، وانتقلت إلى مناطق أخرى بعد ذلك لتشمل كامل سوريا. ومن الواضح أن المتظاهرين السوريين استمدوا إلهامهم من تطورات ومظاهرات البلدان الأخرى كمصر و تونس على سبيل المثال، حتى إن كانت هذه البلدان لم تجن بعد النتائج المرجوة.
فالمتظاهرون ببساطة يريدون التخلص من الدكتاتورية البعثية التي بقيت في سدة الحكم منذ ما يقارب النصف قرن، فقد طفح الكيل بجيل الشباب، وكذلك الجيل الأكبر سناً، من العيش الدائم في ظل الديكتاتورية، والتي تمنع عنهم حرية التعبير وبشكل خاص بسبب عدم وجود أي منظور مستقبلي لأي تغيير إيجابي يُخرجهم من البؤس الذي يرزحون تحته طيلة حياتهم. خاصة أولئك الذين قرأوا أو سمعوا عن عنف النظام و قمعه، ولكنهم لم يسبق لهم أن خبروه فقد كانوا جاهزين في ظل الظروف الجديدة الخادعة لأن يقوموا بالمخاطرة الكبيرة دون وجود أي ضمان للنجاح مهما كان ضئيلاً. ولكن من ناحية أخرى، كان من بين المتظاهرين شخصيات معروفة سبق لها أن سُجنت على يد النظام البعثي، وعرفوا جيداً الفظاعات التي تُرتكب في السجون في المقام الأول.
كان هناك، وما يزال، هذا المزيج الغريب من وسائل الإعلام السورية الخاضعة كلياً للرقابة، وفي الوقت نفسه كان هناك قنوات تلفزيونية مستقلة كالجزيرة التي تملك تأثيراً واسعاً في الرأي العام.
ما الذي بإمكاننا، أو بإمكان حكوماتنا، فعله لتساعد على إيجاد الحل؟
حتى الآن قام الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة فقط بالدعوة إلى تطبيق عقوبات، وقامت بتنفيذ سلسلة متكاملة منها. وحسب علمي، لم يسبق لأي من هذه الدول أن دخلت في أي حوار حقيقي مع النظام في دمشق، بل لم تصل إلى المحاولة حتى. يبدو أن غالبية السياسيين الغربيين لا يرغبون في الظهور كما لو أنهم يقومون بمحاورة ما ينظر إليه بشكل عام على أنه نظام بشار الأسد المجرم، لأن ذلك يُقلل من شعبيتهم في بلادهم .
إلا أن غياب التواصل هذا قد ينطوي على استبعاد أي احتمال للتأثير على الرئيس بشار، فالتصريحات اقتصرت فقط عبر وسائل الإعلام، والعقوبات المفروضة لم تُحرز شيئاً حتى الآن سوى أنها جعلت الحالة الاقتصادية أكثر صعوبة للنظام ولكثير من الشعب الذي يعتمد عليه. تاريخياً، من النادر أن يكون لهذه العقوبات تأثير ما، وعلى عكس ذلك، أدت العقوبات غالباً إلى التسبب بالكثير من الأضرار دون تحقيق أي من النتائج المرجوة. فعلى سبيل المثال، ذكرت تقارير أن العقوبات المفروضة على العراق في التسعينات أدت إلى مقتل 300,000 شخص، وهذا الرقم يساوي تقريباً مئات أضعاف عدد الضحايا من المعارضة السورية الذين ماتوا هذا العام، ومن الضروري جداً التأكيد على أن سقوط ضحية واحدة يضاهي سقوط العديد من الضحايا.
إن الفكرة التي تقول بأن الشعب غير متأثر فعلاً بالعقوبات الاقتصادية ما هي إلا من وحي الخيال والتمني.
ومن الضروري أيضاً أن نذكر أن البلدان التي سعت بجدية إلى المساعدة على إيجاد حل من خلال الحوار، كتركيا، والمملكة العربية السعودية، أو حتى الجامعة العربية لم تكلل جهودها بالنجاح أيضاً، (حتى الآن). إن العزلة المفروضة من قبل إخواتها وإخوانها العرب على دولة تنادي بالقومية العربية مثل سوريا مؤلمة أكثر بكثير من العقوبات المفروضة عليها من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لأن العلاقات مع هؤلاء كانت تشهد أصلاً بروداً بأي حال، إن لم تكن عداءاً.
شخصياً، أعتقد أنه لمن الخطأ الفادح عدم محاولة فتح أي نوع من الحوار السياسي مع دمشق، فعندما صرحت البلدان الغربية بأن النظام السوري ورئيسه سيفقدون الشرعية، تبددت كل الاحتمالات بإجراء أي حوار. وقد يتساءل شخص ما عن فائدة وجود السفارات في دمشق لدول صرحت بأن النظام فاقد لشرعيته. من جهة أخرى، ما هي القيمة الإضافية التي ستجنيها من سحب سفيرك إن كان ليس لديك بالأساس أي اتصال مباشر مع النظام؟ قد يكون وجود السفير نوعاً من الوسيلة الأخيرة للتواصل والتي يتم من خلالها السعي للتأثير على النظام. سحب السفراء هو تصرف رمزي بحت، ولكنه أكثر ألماً بالنسبة لسوريا، البلد الذي ينادي بالقومية العربية حين يتم ذلك من قبل دول صديقة من العالم العربي. فالسفير الأمريكي خسر دوره كنقطة تواصل رسمية ذات قيمة (مفاوض قائم)، من خلال قيامه بزيارة داعمة للمعارضين في حماة. قد تكون لهذه الزيارة لفتة جيدة تجاه المعارضين، ولكنها كانت أيضاً النهاية لأي تواصل مفيد بين الولايات المتحدة والحكومة السورية من خلال سفيرهم في دمشق.
إذاً ما هو الخيار الأفضل، أو الأقل سوءاً؟
بعدما قدمنا هذا المسح لبعض الاحتمالات الخاصة بالسيناريوهات المستقبلية في سوريا، يمكننا أن نخلص إلى نتيجة مفادها أن الخيار الأفضل، أو “الأقل سوءاً” هو المساعدة لإيجاد حالة يتم من خلالها دفع الديكتاتورية الحالية إلى الوصول إلى النتيجة القائلة أنه من الأفضل لها أن تتخلى عن السلطة للآخرين ممن لديهم القدرة بدورهم ليقودوا البلاد قدماً من خلال إصلاح سياسي نحو ديمقراطية أكثر، في الوقت الذي يتم فيه إعطائهم الفرصة لترك البلاد مع ضمانة عدم ملاحقتهم قانونياً. إن مثل هذا السيناريو من شأنه حقن الكثير من الدماء، ولكنه قد يكون من قبيل التمني فقط.
إن الإصرار على محاكمة المتشددين من نظام الأسد، وتطبيق العدالة الحقيقية، سيؤدي فقط إلى زيادة عنادهم للبقاء على قيد الحياة، وسيزيد من احتمال اندلاع حرب طائفية مدمرة والتي ستُنهي حياة الكثيرين دون وجود أي أمل في الوصول إلى سوريا أفضل وأكثر ديمقراطية.
بطبيعة الحال، و كجزء من السياسية المستندة إلى مبدأ “لكل يوم أحداثه”، نجد أنه من السهل على السياسيين الأجانب أن يقوموا بزيادة عقوباتهم والمطالبة بتحقيق العدالة، فذلك سيمنحهم شعبية أكثر على المدى القريب، إلا أن ذلك يضعهم ضمن المسؤولية المشتركة عن سفك المزيد من الدماء ومزيد من الضحايا، إن لم يحاولوا على الأقل المساعدة على إيجاد حل أكثر فاعلية.
ويبقى السؤال الرئيسي: كيف نستطيع إنهاء الديكتاتورية لمساعدة سوريا للوصول إلى المستقبل الأفضل الذي تستحقه، في الوقت نفسه نحافظ قدر الإمكان على أرواح الكثير من السوريين؟
المصدر
“SYRIAN FUTURE SCENARIOS,” by Ambassador Nikolaos van Dam
Syria Comment